تاريخخواطرقصص

أيها الصليبيون، إنّ الأمان لكم أماني! .. «من لحظة الاختطاف حتى النحر»

بعد حادث اختطافهم السريع والمُريع في مدينة سرت الساحلية الليبية، لم ينشغل بال هؤلاء العمال من الأقباط المصريين بأي شيء عما سيحدث في العالم بعدها، ولم يكن يعنيهم معرفة من سيُهملون قضيتهم، ولا من سيتاجر بمحنتهم، ولم يخطر في أذهانهم أن تحدث حولهم كل تلك الضجة على مستوى العالم بأكمله، وبالطبع لم يتوقعوا أن تكون الضربة الجوية المصرية الأولى – المُعلنة – ضد مُعسكرات تنظيم داعـش في ليبيا ستكون بعد ساعات من عرض ذلك الفيلم الدعائي المزعج الذي يعرض بتفصيل مُرهق للأعصاب عملية ذبحهم، وظهر فيه معدن هؤلاء الرجال من الأقباط «الصعايدة» والذي أتضح أنه أصلب بكثير مما قد يظن البعض.

كذلك لم يشغلهم ما كان يفكر فيه هؤلاء الخاطفون القساة حينما اختطفوهم، ماذا يريدون بالضبط؟ ربما سمعوا منهم بعض شذرات الكلام المُتفرقة خلال ليالي الأسر الطويلة، فأنصتوا إليهم ليسمعوا وصفهم لهم بأنهم نصارى صليبيون، حسنًا، فليقولوا ما يشاءون. يتحدثون بحماس عن كيان ضخم ينتمون إليه يسمونه دولتهم الإسلامية. حسنًا، دعهم يتحدثون. كل هذا أيضًا لم يعد يعنيهم الآن!

كانوا – قبل اختطافهم – يدركون حقيقة أنهم في مُستهل أجواء عصيبة يصفها حالمون بأنها ثورة، ويراها مُحايدون حربًا أهلية، بينما يصرّ أخرون على أنها فاشية دينية تلتهم الأرض التهامًا. لكن كل هذه المُسميات والتحليلات لم تشغلهم أبدًا، فلم يحدث قط أن انشغلوا بأي أمر في غربتهم التعيسة تلك إلا بلقمة العيش، لكنهم أدركوا أخيرًا – بعد اختطافهم – أن هذه اللقمة ستكون مُكلفة للغاية!

لقد انعزلوا ذهنيًا بالكامل عن عالمنا المريض، وانشغلنا نحن – بحياتنا اليومية – فانعزلنا عن مصيبتهم، هم لا يعرفون أي شيء نعرفه عن ماجريات الأرض بعد اختفائهم، كما لا نعرف نحن أي شيء البتة عن المُرّ الذي يذوقونه هم! لم يعودوا يعلمون عن حوادث كوكبنا سوى خبر من هنا أو من هناك قد يكونوا سمعوه على لسان أحد السجانين، أيضًا هم لا يأملون كثيرًا في أن يهتم أحد بشأنهم سوى أسرهم وأقربائهم، حتى مصائرهم لا يحيطون بها علمًا! هل سيُقتلون ككل من سبقوهم في مثل تلك المحنة؟ أم مازالت هناك فرصة ما لعودتهم سالمين؟ بل وفي حال إذا قُتلوا، هل سيعرف العالم بذلك؟ أم سيختفي أثرهم في ظُلمة حالكة إلى الأبد؟

إذن ما الذي كان يعنيهم بحق؟ وماذا كان يدور في خلدهم حينما – وبعدما – اختطفوا؟ إذا حاولنا – مُجرد محاولة – أن نتخيل شعورهم بأن نضع أنفسنا موضعهم، فلا شك أنهم في البداية سيصابون بحالة رهيبة من الذعر والهلع عندما يفكرون فيما قد يجرى لهم! كما قد يدخلون في حالة من عدم التصديق لكل ما يجرى، وكأنهم في كابوس مرعب! وبخاصة إذا تعرضوا على أيدي غلاظ القلوب لتعذيب جسدي – أو نفسي – بهدف تحطيم أعصابهم، ولكسر أي قدرة على المقاومة لديهم.

وبالتأكيد سيستغرق كل منهم وقتًا طويلًا في التفكير حول مسألة كيف سيكون مصيره؟! لكن بمرور الوقت، وبعد أن يدركوا حقيقة أن مصيرهم قد صار شبه محتوم، وأن لحظة الفتك بهم آتية لا محالة، حتى لو تأجلت قليلًا إلى حين، فسينحصر كل تفكيرهم في حالة ذويهم وأسرهم عندما يصلهم خبر تلك الفاجعة التي ألمت بهم!

فهذا عامل بناء كادح متزوج لم يفكر في الذهاب إلى ليبيا إلا من أجل لقمة العيش، لا شك في أنه يفكر في حال زوجته وأطفاله الآن، ومن سيعولهم إذا أصابه مكروه على أيدي عديمي الرحمة هؤلاء! وهذا الشاب اليافع أيضًا لا يتذكر سوى خطيبته التي تغرب عن موطنه كي يكون قادرًا على الزواج منها، يا تُرى أين هي الآن؟ وماذا ستفعل عندما تعرف بما حدث له؟ مسكينة هذه الفتاة! وأما هذا الشاب الصغير المثابر فلا يحمل أي هم ولا يشغله سوى لوعة قلب أمه عليه عندما يصلها نبأ اختطافه! كيف هو شعورها الآن؟! يريد فقط أن يطمئنها بأي وسيلة، يريد أن يخبرها أنه سيكون بخير على أي حال ومهما جرى له من حال! هو لم يعد يعنيه الآن أي شيء سوى أن يطمئن على أنها ستكون بخير دائمًا، حتى لو عاشت بدونه! يريد أن يخبرها بكل ذلك، ولكن كيف السبيل لذلك؟! لقد حدثت تلك البلية السوداء بشكل مفاجئ، لم تتاح لأي منهم فرصة ليُرتبوا أمور حياتهم قبل الرحيل، كم واحد منهم كان لديه شيء يريد أن يخبره لشخص ما، أو حتى وصية يريد أن يوصى بها أقرب الناس إليه. وكل منهم يسأل نفسه كيف سيتقبل أهله ذلك الخبر المزعج!

وهنا بالذات، بل هنا فقط! يسترجعون في أذهانهم تلك الأخبار الكئيبة المشوشة التي كانوا يسمعونها عن كل من اُختطفوا أو قُتلوا في المدن الساحلية الليبية بالقرب منهم، وأيضًا عن الذين استشهدوا من أهالي قراهم في صعيد مصر على أيدي طائفيين من التنظيمات الإسلاموية المُسلحة. كانوا يتابعون أسماء هؤلاء في الأخبار دائمًا، كانوا مُجرد أرقام، ثلاثة هنا، وسبعة من هناك، مُجرد قوائم بأسماء لا يعرفون حقًا كنه أصحابها، كانوا بعيدين عنهم جدًا.. أما الآن فقد أختلف الوضع، فقد صاروا أقرب ما يكونون إليهم! من الواضح بكل أسف أن كل منهم سيصير رقمًا جديدًا يُضاف لهذه الأرقام.

لا يوجد أدنى شك في أنهم قد اقتربوا روحيًا – وإنسانيًا -من بعضهم البعض، أكثر من قربهم لكل من من سبق وعرفوهم في حياتهم السابقة لتلك المحنة. فلا يجمع النفوس شيئًا أكثر من المحن، فما بالنا بمحنة شديدة الوطأة من هذا النوع! هم الآن شركاء في وجع واحد، وألم واحد، ولكن.. تُرى هل لديهم فرصة أصلًا للحديث مع بعضهم البعض؟ حتى يُشجع كل منهم أخاه على الصبر حتى المنتهى، على أي حال.. حتى لو عزلوهم عن بعضهم البعض، لن يعدموا أي طريقة للتواصل. ففي هذه الأوقات العصيبة.. نظرة واحدة تكفي، بل حتى إيماءة بسيطة. يكفي أن ينظر أحدهم للسماء حتى تصل إليهم الرسالة كاملة، بأنه لا جدوى من الأمل في خلاص أرضي، وأنه لا خلاص إلا عند رب السماء!

فلا مجال هنا للهرب! ولا تُوجد إمكانية للتفاوض مع أحد ما بشأنهم، وليس هناك أي فرصة لأن يرق قلب أحد هؤلاء الشياطين ويسربهم في الخفاء، فهم قوم لا يمزحون، ولم يسبق من قبل أن خرج أسير من بين أيديهم حيًا. لقد أضمحل كل رجاء لهم في النجاة، وصار لزامًا على كل واحد منهم أن يفكر بجدية في نجاة من نوع آخر أكثر أهمية، وهو مصيره النهائي في الحياة الأخرى. بغير هذا لن ينشغل تفكير أحد منهم إلا بشيء واحد هو أن يطمئن على أفراد أسرته، فيصلي كي يعطيهم الله صبرًا لاحتمال فراقه عنهم، وأن يمر عليهم خبر استشهاده بسلام، ويصلي كذلك لأجل خلاص نفوسهم حتى تتاح لهم الفرصة أن يلتقوا معًا مرة أخرى في الأبدية بعدما أضمحلت تلك الفرصة على الأرض، كذلك يطلب معه صلوات السمائيين – بما فيهم قديسو الكنيسة وشهدائها – كي يمنحه الرب الإله سلامًا في قلبه.. وقوة، لمواجهة الموت بصبر.

وعلى سيرة الشهداء، يبدأ كل منهم في تذكر سير شهداء الكنيسة، تلك التي كان يقرأها أو يستمع إليها في السنكسار القبطي، ويفكر أحدهم في أنه كان – حينها – يسأل نفسه مندهشًا: «كيف احتملوا تلك الآلام بذلك الصبر العجيب والثبات العظيم؟!»، لكنه يكتشف وسط تأملاته تلك أن الوضع الآن صار مُختلفًا تمام الاختلاف، فلم تعد هذه مُجرد أحداث في تاريخ الكنيسة يستمع إليها أثناء انشغاله بالتفاصيل المزدحمة لحياته اليومية، بل عليه الآن أن يتشجع ليكون أحد هؤلاء الشهداء الذين كان يقرأ عنهم بإعجاب وتعجب!

ليس لديهم الآن أي نسخة من الكتاب المُقدس حتى يقرؤوه ليجدوا فيه تعزية لنفوسهم المضطربة، لكنهم يتذكرون! نعم مازالوا يتذكرون، على الأقل لم يكن مُمكنًا أن ينسوا – كلمات أو معاني – بعض آيات كتابية حفظوها في مدارس الأحد، أو سمعوها تُقرأ في القداس الإلهي، أو حتى قرأوها في أحد النبذات الروحية، فيذكرون قول المسيح المُطمئن لهم: «لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يُهلك النفس والجسد كليهما في جهنم» (مت 10: 28).

لكنهم يومًا بعد يوم يزدادون غربة عن عالمنا أكثر فأكثر، وعالمنا أيضًا مع كثرة الأحداث والحوادث ينساهم بمرور الوقت. عالمنا الذي لم يعد عالمهم الآن، عالمنا مُنشغل في قضايا كثيرة وصراعات عديدة، ولسان حال كل منهم يقول: دعهم ينشغلون. عالمنا لديه أحلام كبيرة وطموحات أكبر، دعهم يحلمون. عالمنا غارق في مُعضلات وإشكاليات تحتاج إلى حلول، دعهم يحاولون حلها! هم أنفسهم قبل أن يغتربوا عن عالمنا كانت لديهم أحلام كثيرة ومتاعب أكثر، ولكن أين هي الآن تلك الأحلام والآمال والمتاعب؟ اختفت، تبخرت تمامًا! وهنا قد يذكرون أيضًا قول المسيح لهم: «لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته، ولكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يُبغضكم العالم» (يو 15: 19)

حقًا وصدقًا، لم يعد هذا العالم يخصهم من قريب أو بعيد، هم الآن – روحيًا – في قمة العالم، فلم يتبق لهم شيء يخشون عليه أو منه، ولم يعد لديهم شيء يحلمون بتحقيقه، لم يعد هناك أي حلم، ولا رغبة في أي شىء، حتى الفرصة في النجاة!.. ينطبق عليهم قول أوغسطينوس: «جلست على قمة العالم.. حينما أصبحت لا أخاف شيئًا.. ولا أشتهى شيئًا»، ولو كان أحدهم قد قرأ هذه العبارة من قبل، لأستوعبها وأدرك معناها كما لم يفهمه من قبل! كل شيء يتكشف الآن، حقا.. إنها لحظة الحقيقة! لم يكن من الممكن أن يصل أحدهم لهذا المستوى من الوعي إلا عن طريق تلك العزلة وذلك الألم، أو كما قال البابا شنودة الثالث: «الألم أقوى وأعمق من البهجة وأكثر صدقًا، وفيه يقف الإنسان أمام حقيقة الحياة، وأمام حقيقة نفسه!»

لقد صاروا يدركون الآن – بالتجربة العملية – أن كل شيء باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس، فالموت الذي صار قريبًا جدًا منهم كان سيكون مصيرهم على أي حال مهما طالت أعمارهم، لذا كان عليهم أن يقولوا لأنفسهم: «إن عشنا، فللرب نعيش، وإن متنا، فللرب نموت، فإن عيشنا وإن متنا، فللرب نحن» (رو14: 8)، فيشكروا الإله الرحوم لأنه أتاح لهم فرصة ذهبية لا تتكرر كثيرًا، وهي أن يكونوا مستعدين لمفارقة الحياة باطمئنان على أبديتهم، فمن يعرف؟ ففي عالمنا كانت ستسرقهم زحمة الحياة وتفاصيلها عن إدراك كل هذا، بل أن كل واحد منهم صار يتمنى أن تصل رسالته الواعية هذه لكل من يحبهم، ولكن كيف يمكن أن تصل رسائلهم تلك؟! يكاد كل واحد منهم يصرخ في وجه العالم قائلاً: أريد فقط أن أطمئنكم أنى بخير، ولا يشغلني الآن سوى أنتم، أرجوكم.. أفيقوا!

وأخيرًا، تأتى لحظة الذروة! وهى لحظة استشهادهم، وذلك بعد رحلة جهاد طويـلة ومريرة خلال الأسر، كانوا يحتاجون إليها جدًا للنمو في النعمة الممنوحة لهم منذ ولادتهم الثانية في جرن المعمودية، رحلة اكتسبوا فيها قوة روحية من التصاقهم بالله، القوة الوحيدة التي تستطيع أن تؤهل كل منهم كي يهتف باشتياق حقيقي قائلاً: «لي اشتهاء أن أنطلق، وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جدًا».

ولكن تُوجد هنا مُعضلة غامضة، وهي أننا لا نعرف بالضبط متى اكتشفوا حقيقة أن عملية ذبحهم ستٌصور بالكامل! هل كان هؤلاء القتلة يجبرونهم على ممارسة بروفة يومية لهذا المشهد الفظيع؟ أم أن هذه البروفات جرت كلها في نفس اليوم؟ حتى الآن مازلنا لا نعلم، ولكن… كيف كان يفكر كل واحد منهم حينها؟ لعل رد فعلهم الداخلي سيكون هكذا: «يا ربى!!.. أنهم سيصورون مقتلنا!».. مُعدات وآلات التصوير تدل على أنهم محترفون، لقد أصبحوا يعلمون الآن أن لحظه استشهادهم سيراها العالم كله! بما فيهم أسرهم وأقاربهم وأصدقائهم، «آه لا أريد لهم أن يشاهدوا هذا.. سيكون الأمر مؤلمًا بل قاسيًا جدًا على أمي!.. لن يحتمل أطفالي بشاعة هذا المشهد!.. والأسوأ، أنه سيظل ماثلًا أمام أعينهم طوال سني حياتهم! .. ولكن لما لا؟!.. قد يكون هذا دافعًا دائمًا لهم للثبات على الإيمان!».

الأحداث تتسارع بشدة! يصلون أخيرًا إلى شاطئ غرب مدينة سرت، كثيرًا ما رأوا البحر الأبيض، ولكن هذه المرة يبدو لهم البحر كئيبًا، الأجواء كلها مُقبضة، حتى السماء كانت لسبب ما ملبدة بغيوم كثيفة، أما هم فكانوا يرتدون ملابس الإعدام البرتقالية الشهيرة، وأيديهم مُكبلة بأصفاد حديدية خلف ظهورهم، ويجرهم بالحبال شرذمة من جنود مُلثمون ضُخام البنية بزيهم الأسود القاتم، فيسيرون بمحاذاة شاطئ البحر بصورة شديدة الانتظام، ثم فجأة.. يقف بهم الجنود، ويركعونهم على ركبتيهم استعدادًا لذبحهم، يا تُرى كم مرة أعادوا تصوير هذه المشاهد حتى يرضى عنها مُخرج الفيلم!

ثم يظهر القائد الميداني لهؤلاء القتلة بزيه العسكري ووجهه المُلثم، فيتحدث أمام الكاميرا بلغة إنجليزية غالبًا لا يفهمها معظم المغدورين أو جميعهم، فيقول متوعدًا: «أيها الصليبيون.. إن الأمان لكم أماني».. يقول هذه العبارة مُشهرًا خنجره في مواجهة الكاميرا بطريقة درامية مُفتعلة لبث الرعب في قلوب المشاهدين للفيلم حول العالم، لم يكن يعرف أن هؤلاء الأقباط العُزل قد باتوا يدركون أنه لا أمان حقيقي على الأرض.. في أي وقت وفى أي مكان.. وأن مُخلصهم قد أخبرهم بهذا من قبل قائلا: «تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم.. أنه يقدم خدمة لله» (يو 16: 2)، ولم يغفل أن يطمئنهم بعدها قائلا: «قد كلمتكم بهذا ليكون لكم في سلام.. في العالم سيكون لكم ضيق.. لكن ثقوا.. أنا قد غلبتُ العالم» (يو 16: 33)

لم يدرك أيضًا – هذا المُلثم – إيمان الكنيسة المُعلن بأن دماء الشهداء هي بذار نموها! فما أن تُخضب الأرض بدمائهم حتى يزداد رسوخها على الأرض أكثر فأكثر! أنهم يصيرون خالدين في العقل الجمعي للكنيسة، نماذج مُعاصرة وأمثلة حية على الثبات في الإيمان، وعلى إكمال جهادهم على الأرض بصبر بطولي! لذا تحتفل الكنيسة بأعياد استشهادهم لا مولدهم كما يفعل أهل العالم، لأنها لا تنظر إلا إلى نهاية سيرتهم، لكي تتمثل بإيمانهم (عب 13: 7)، وسبق أن حاولت الإمبراطورية الرومانية أن تفنى الكنيسة باستنزاف دماء أتباعها، فكانت النتيجة هي اضمحلالها في مقابل اشتداد صلابة أعضاء الكنيسة، فتثبت إيمانها أكثر في قلوبهم قبل عقولهم! حتى باستقراء أزمنة الأقدمين نعرف أن إشهار سلاح القتل تجاه أي منظومة لن يؤدي في النهاية إلا إلى صمودها، ولكن ماذا نقول في الغباء البشري المُستحكم الذي يغفل عوامل صعود وانهيار الأمم عبر التاريخ!

أنه بالضبط كما يصف الشهيد يوستينوس – من القرن الثاني الميلادي – في دفاعه الشهير عن المسيحية وأهلها. حينما أكد أن قطع رؤوس المسيحيين، ورميهم للوحوش المُفترسة، وتقييدهم بالسلاسل، بل وجميع أنواع التعذيب، كل هذه لا تؤدي إلى ترك المسيحيون إيمانهم، بل أنها – على العكس – تجعل الكنيسة أكثر حيوية وأكثر أثمارًا، مثلما يتعمد الكرام أن يقطع أغصان الكرمة المثمرة حتى تنمو مكانها أغصانًا أخرى!

بل إن هؤلاء الشهداء – بتضحيتهم – صاروا أيقونة كونية للمسيحية النقية التي لا تزال باقية في الكنائس القويمة الإيمان، ورمزًا بارزًا في الذاكرة المصرية، بل – للحق – أقول في ذاكرة العالم كله، حتى أن مؤسسات غربية – تنسب نفسها للمسيحية زورًا – سعت جاهدة إلى المُتاجرة بدمائهم حينما حاولت أن تنسب هؤلاء الشهداء لها أيضًا، وكأنه يستقيم أن تتجاور كنيسة الإسكندرية – المعروفة بكنيسة الشهداء – مع كيانات مٌخالفة لأكثر الوصايا الإلهية بداهة، وذلك بمباركتها للأزواج من نفس الجنس!

وهكذا، بمُجرد أن أنهى القائد كلمته الطافحة بالكراهية السوداء، بدأ الجنود المُلثمين يدفعون الأبطال المُقيدين للانبطاح على الأرض، استعدادا لذبحهم. فيرفع كل جندي خنجره وهو يضغط بركبته على ظهر كل واحد منهم، وهنا يصرخ الأبطال: «يا ربى يا يسوع»، وكأنهم في صرختهم يصلون: «يا رب نرجوك أن تجعل هذه الثواني تمر بسرعة»، كان هدفهم هو الانتصار على الخوف الإنساني الطبيعي، كان كل منهم يصرخ لكي يقوى نفسه على مواجهه لحظات ما قبل النحر بصبر، مثلما يصرخ المريض بصوت عال حتى يكتم صوت الألم بداخله، وفى ذات الوقت يكون صراخهم إلى الله هو آخر شيء يقومون به. وفي كل هذا كان الله يرى ويرقب صبرهم، أنه صبر القديسين!

يا إلهى! أنها ليست مثل المقصلة، ليست مُجرد سيف حاد يهبط بقوة فوق الرؤوس، فيُنهى الأمر بسرعة وبدون ألم، يا إلهى! إن غلاظ القلوب عديمي الحس يجزون الرؤوس من الأسفل! على أي حال، أيًا كانت طريقة النحر، لقد أنتهى الأمر سريعًا بالفعل… وتظهر لنا أمواج شاطئ البحر مخضبة بلون دمائهم الزكية.

مساكين هؤلاء القتلة! نعم، هؤلاء الإرهابيون هم المساكين، وبجبنهم مُلثمين! لا يدارون وجوههم فقط خوفًا من تعقب الجيوش الوطنية النظامية لهم، بل بالأكثر يدارونها لإخفاء هشاشة قلوبهم المُرتعدة! فالمُقاتلون الشرفاء بحق لا يشاركون في إزهاق أرواح أسرى مٌكبلين من الخلف كما فعلوا هم بكل خسة ودناءة، كما لا يتورطون أبدًا في قتل مُسالمين عُزل لا يعرفون لغة السلاح، ولا يخوضون إلا حربًا ندية تدور بين جنود مُسلحين متكافئي القوة ومهارات القتال وآلات البطش!

وفي ضعفهم المذري هذا لم يدرون شيئًا عن مدى قوة أسراهم الأبطال الذين لم يظهر على وجوههم أي خوف، حتى نظراتهم كانت ثابتة، كان هذا بسبب عمل النعمة الإلهية التي تجعل الإنسان يتخلى عن تعلقه بهذا الدهر ليرتفع ويحلق بحواسه في آفاق روحانية عالية تسمو فوق أي غرائز أرضية، نعم.. حتى فوق غريزة الحياة والبقاء! فشابهوا في جهادهم الشهداء القدامى من أجدادهم، كان من الممكن أن ينكر أحدهم إيمانه لينجو بنفسه، ولكن يعلمون أن السيد قالها واضحة: «من يُنكرني قدام الناس، أُنكره أنا أيضًا أمام أبي الذي في السموات» (مت 10: 33)، لقد أيقنوا أنهم بالموت سينالون إكليل الشهادة، كما سينعمون بحياة أخرى خالدة، وقد أُختصر عليهم طريق الجهاد المُضني في العالم، فلما لا يثبتون حتى النهاية؟!

أكاد أرى أنهم في لحظاتهم تلك فائقة السمو لم يحملوا ضغينة ضد مُضطهديهم القساة، وأن لسان حالهم كان يردد صرخة المسيح: «أغفر لهم يا أبتاه، لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون» (لو 23: 34)، نعم، لا يعلم القتلة كم هو «عزيز في عيني الرب موت أتقيائه»! (مز 116: 15)، فالله بقضائه العادل ينتقم لهم إن لم يكن في الأرض ففي السماء، وواهم كل من يظن أنه يستطيع أن يهرب بفعلته تلك من العقاب الإلهي، فدماء هؤلاء الأبطال ليست رخيصة عند الله أبدًا، بل أن كل واحد منهم يصير عنده في مرتبة أعلى من مراتب القديسين، ومهما حقد الأشرار عليه و«حنقوا بقلوبهم وصروا بأسنانهم عليه» (أع 7: 54)، سيظل حاله كحال الشهيد أسطفانوس الذي في وقت استشهاده كان «وجهه كأنه وجه ملاك» (أع 6 : 15)، و«أما هو فشخص إلي السماء وهو ممتلئ من الروح القدس فرأى مجد الله ويسوع قائمًا عن يمين الله» (أع 7: 55).

أن جميعهم، في نهاية الأمر، ينطبق عليهم وصف مُعلمنا بولس الرسول حينما قال: «تجربوا في هزء وجلد، ثم في قيود، وأيضًا حبس.. رجموا، نشروا، جربوا، ماتوا قتلًا بالسيف.. وهم لم يكن العالم مستحقا لهم» (عب 11: 36، 38)، ولأن العالم ليس مُستحقًا لهم، كان بديهيًا أن يرددوا معه أيضًا: «ليست لنا ههنا مدينة باقية، بل نطلب الآتية» (عب13: 14)، هكذا كانت هذه المذبحة جسرًا ذهبيًا إلى المدينة الآتية، فكأن لسان حالهم يقول: «لي الحيـاة هي المسيح.. والمـوت هـو ربح» (في 1: 21)، أما نحن الذين لازلنا نستوطن بأرض الجهاد الفانية، فنطلب صلواتهم كي تكون معنا في زمان غربتنا. آمين

للمتابعة على فيسبوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!