المُتعصبون ليسوا أبدًا هم الأصوليون المتمسكون بإيمانهم والمُخلصون لثوابتهم القديمة، فهذه نظرة شائعة تخلط بسذاجة بين الأصولية والفاشية، لأننا قد نعرف شخصًا أصوليًا مُحافظًا متمسكًا بمُعتقداته، ولكنه مع ذلك لا يفرض آرائه على أحد، بل يتعايش مع المُختلفين عنه رغم اعتراضه التام على منطقهم أو مسلكهم، ولا يريد من المجتمع سوى أن يتركه وشأنه ليعيش إيمانه كما يريد، وفي الوقت ذاته قد نجد شخصًا متحررًا يحاول باستماتة – تحت اسم التنوير – أن يفرض رؤاه المُحدثة على المؤسسات التقليدية – بل وعلى الأفراد – بشكل سُلطوي!
ولكن المُتعصبون حقًا هم فاشيون، يضعون «عصابة» على أعينهم كي لا يروا الحقائق المنطقية المُجردة التي تخالف ما يدعونه، وعلى رأس هذه الحقائق رفضهم التام لحقيقة وجود مُجتمعات مُخالفة لأهوائهم الفكرية، كما يرفضون كذلك أي نقاش موضوعي – مع تابعي تلك المُجتمعات – تحت مظلة مرجعية واضحة، لأنهم يؤمنون – في أعماقهم – بأن تلك الطريقة ستجعلهم يخسرون قضيتهم لا محالة، وستنكشف أمام الجميع ضحالة عقولهم وهشاشة آرائهم وضعف منطقهم وقلة حجتهم، لأن هؤلاء في حقيقتهم ليسوا صادقي الإيمان بمُعتقدهم، وليس لديهم أي ثقه فيه أو بأنفسهم، وإلا لما اضطروا أن يصيروا فاشيين.
أما السمة الجوهرية التي تميز المُتعصبون فتكمن في أنهم لا يحتملون أبدًا التعايش المُشترك داخل المجتمع مع جماعات تختلف عنهم في المُعتقد، فهم يريدوا من الجميع دون استثناء أن يصيروا مثلهم، حتى لو لم يتدخل هؤلاء مطلقًا في حريتهم الشخصية كأفراد، فهم لا يقبلون فكرة أن يتعايش المختلفين سويًا رغم الاختلاف – مهما أظهروا عكس ذلك، بل يريدون إذابة كل الاختلافات لتصب في صالح مُعتقدهم هم في النهاية.
ولهذا فهم مُخادعون من الطراز الأول، يستخدمون طرقًا ملتوية لفرض رؤيتهم على الجميع، حتى لو تطلب الأمر أن يتدخلوا لمنع حرية العقيدة سواء للمؤسسات أو للأفراد، بزعم كاذب أن آرائهم الخاصة – النابعة من معتقداتهم بالطبع – هي ثوابت عامة على جميع المؤسسات والأفراد أن يلتزموا بها دون نقاش!
ولهذا فأسلحتهم التي يستخدموها مع خصومهم الفكريين تعتمد فقط على إرهابهم فكريًا بأسلحة غاية في الدناءة والخسة بهدف إخراس ألسنتهم، فإما أن يقبل هؤلاء الخصوم آرائهم ومعتقداتهم دون نقاش، وإلا سيتعرضون للطعن العنيف بتلك الأسلحة التي ستفتك بهم دون رحمة.
وأول هذه الأسلحة وأرخصها هو السخرية الفجة والتسفيه من الخصوم بأشخاصهم وأطروحاتهم بدون أي منطق أو تقديم حجج موضوعية أو مناقشة فكرية جادة، لكي يضطروهم إلى الصمت حتى لا يتعرضوا للتنمر والنبذ في مجتمعهم!
وإذا فشل السلاح الأول يظهر سلاحهم الوضيع الثاني، وهو توجيه الاتهامات للخصوم بدون أي سند أو دليل إلا الكلام المُرسل، ووصمهم بألقاب وصفات مُنفرة ليبتعد الناس عنهم، ولا مانع من سبهم بأحط الألفاظ وأكثرها بذاءة، ووضعهم في قوائم سوداء إذا لزم الأمر، فهذا يساعد جدًا على عدم توفر بيئة صالحة لإقامة نقاش صحي وعادل يفضح تدليسهم.
وإذا لم يفلح السلاح الثاني أيضًا، واستمر الخصوم بشجاعة في طرح دفاعهم أو نقدهم، هنا يبرز السلاح الثالث والناجز.. وهو الاستغلال الحقير لنتائج وتأثيرات السلاحين الأول والثاني على عقول وقلوب العامة، لتبرير السعي العلني لمنع الخصوم تمامًا عن إعلان آرائهم بأي شكل.. سواء بالتهديد المباشر أو بمنعهم قانونيًا أو سُلطويًا تحت عنوان إنساني لطيف سيقبله جميع الناس مثل: «مواجهة المُتعصبون»!