تاريخرأي

ألعله يجد الإيمان على الأرض؟.. في كنيسة الإسكندرية!

مساحة الوعي بالخطر في عالمنا تشهد اضمحلالًا مُريعًا، خاصة وسط مستنقع الخمول الذهني الذي نغرق فيه. ففي خضمّ عاصفة المعلومات المتلاحقة، صار حتى أكثر القراء نضجًا يميلون لاستهلاك المواد المعرفية كلما كانت أقصر وأسرع. يلهثون وراء خلاصة كل قضية، ويبحثون عن عصارة كل مسألة، دون أدنى رغبة في الدخول إلى العمق. وبات الكثيرون لا يصبرون على قراءة نصوص تبدو لهم طويــلة، كهذا النص. لذا، أمامك خياران، عزيزي القارئ: يمكنك ببساطة تجاهل هذا المنشور كأنك لم تره! لتكمل سيرك المُعتاد في طاحونة الحياة اليومية المُرهقة، بكل ما فيها من مشقاتٍ ومسرات، أو يمكنك أن تجرب – ولو مرة واحدة – أن تسلك الطرق الأقل صخبًا، لعلك تجد زاوية أخرى، ترى خلالها العالم من منظور أكثر اتساعًا.

عالمنا يتغير، هذا لا يدعونا – بالضرورة – للقلق، ولا ينبغي أن يكون الخوف هو سيد الموقف. فما رحلتنا كبشر عبر مسارات الزمن إلا سلسلة من التحولات الجذرية العنيفة. غير أن البصير يرصد أن تلك الموجة من التغيرات الجارية في الكون هي الأسرع والأغلظ والأكثر فظاظة منذ بدء المؤرخون يسجلون أحداث التاريخ! هي فاشية جديدة، لكن على مستوى كوني هذه المرة. أفعى ملساء مُخاتلة في غاية الخبث، ترتدي بمكر ثوب إنساني بالغ الرقة والحساسية. إلا أن طرائقها المُروعة في البطش أكثر تطرفًا وغوغائية من أشد أسلافها قسوة، ولا تتورع عن افتراس كل من يُخالفها أو يُناقضها، بل تكون أكثر وحشية بمن يتجرأ على فحصها بتدقيق ليُخضعها لنقد موضوعي!

نعم، لها لوبي متغلغل في بلاد الغرب، كما لها أذرعها النافذة في أرجاء الشرق. لكن لا تدعوا الوضوح الزائف لهيمنتها يخدعكم؛ فتحسبون ببساطة أنكم قد أمسكتم بخيوطها العنكبوتية الدقيقة. إنها أضخم من تلك الأضواء الظاهرة بكثير! وتأثيرها أعمق مما نراه بارزًا على السطح! هي بحق قوة عظمى، عالمية، عاتية، مُكونة من شبكات تنظيمية هائلة الضخامة، تروج لمنظومتها الفكرية والعقائدية عبر أنظمة سياسية ومؤسسات أكاديمية وهيئات إعلامية ومُنظمات حقوقية، بالإضافة إلى شركات عملاقة كوكبية مُتعدية للقوميات الوطنية! يرى قادتها، من سادة النخبة، أن عوام البشر أغبياء تافهون لا يدركون ما الصالح لهم، ولا يصلحون سوى للتدجين في مزارعهم البشرية الشاسعة. في المقابل، رأوا أنفسهم آلهة العالم الجديد، ودعاة النور، ورجال البناء، وحملة مشاعل الحقيقة الجديدة، والمُلاك الحصريين لمفاتيح رخاء الأمم، لذا فهم أصحاب الحق الأوحد في تقرير مصائر عالمنا!

تلك الحية الماكرة! بطموحاتها الجامحة، وأيديولوجيتها الخطيرة، وأطروحاتها الفوضوية، تتخطى حدود الآفاق المنظورة لنا. تكاد من فرط همتها العالية أن تعانق أجرام السماء، مساعيها التي لا تتوقف في هدم الحصون تمتد في فضاء لا نهاية له. لا تقتصر غايتها على تقويض القيم الأصيلة والمُعتقدات الراسخة والأوطان الآمنة – لأن التدجين يتطلب مُحاربة كل ما يمت للانتماء بصلة – بل تتجه أيضًا نحو الدعامة الأساسية للبشرية برمتها، والأساس المتين لاستقرار المجتمعات وقوتها. تستهدف بسمها الغادر المُميت كل بيت على وجه الأرض يحتضن أبًا وأمًا وأبناء، أي الأسرة.

ومن يتساءل عن سبب هذا الهدف مُستنكرًا؟ إنما قد يفتقر إلى الرشد، فكل حصيف يملك قدرًا ولو ضئيلًا من المعرفة بنواميس الكون الثابتة يدرك أن تلك الأسرة هي البنيان الرئيس الحقيقي للمجتمعات المزدهرة، وما تفككها إلا إشارة مقلقة على انحدار كوكبنا بأكمله. أما ذاك السعي المجنون لتخريب مفهوم الأسرة ذاته، فلا يعني إلا أن المستقبل هو كابوس أسوء بما لا يُمكن قياسه، ونذير شؤم لخراب لا يُمكن وصفه بكلماتنا القاصرة، هو دمار شامل لن يترك لنا سوى أرضًا جرداء نسكن بين ركامها، نتحسر بألم أمام أطلالها السامية التي كانت!

فقط السذج هم من يقاومون الربط الفكري بين تماسك كيان الأسرة وتقدم الأمم، فيتهكمون بسخرية مريرة: «ليت حالنا كتلك البلاد عظيمة التطور بأسرها المتفسخة»، لا تصدقوا هذيان هؤلاء، المفتونين كثيرًا بكل ما يأتي من الغرب، دون تمحيص أو تمييز، وكأن الزيف لا يخرج من بين أيديهم أبدًا، لا تقعوا أبدًا في هذا الفخ، لا تعطوا أولوية لتقدم علمي أو اقتصادي أو سياسي لا يسير بمزامنة مع الترقي الروحي أو القيمي. إن مئة أو مئتين أو حتى ثلاثمائة عام لا تُساوي طرفة عين في حياة الشعوب، ولا توجد استدامة لأي نهضة تهمل بُعدها الروحي، وتستخف بمبادئها الأخلاقية، وتُفرط في فضائلها الأصيلة. ولا يغرنكم مظاهر التقدم والترف في الغرب، هذه كلها نتاج عصر ما قبل زمن الانحطاط الجاري الآن، إنما هي أجيال ضعيفة تائهة تبدد في عقود قليلة ثمار ما زرعه أجدادهم العظام في قرون بالعرق والدم والدموع!

صدقوا دوستويفسكي، حينما يخبركم بحدسه الثاقب، أن أي تقدم لا يقوم على أساس روحي ومضمون أخلاقي سينقلب حتمًا إلى همجية! لأن القيم الأخلاقية وحدها هي ما تصنع مجتمعًا منسجمًا. لا تستهينوا بنبوءته حينما يكشف لكم بحسه المُرهف جدًا أن الداعين لذلك هم مجرد محتالين أغبياء يتاجرون بالليبرالية! يبشرون بخراب لا يُحتمل تحت اسم التقدمية الاجتماعية! عودوا إلى أبرز الأسماء الرنانة التي برقت في سماء نهضتهم، بما فيهم اللادينيون الجاحدون بكل مذهب والرافضون لكل دين، اقرأوا أدبياتهم الشائعة بعمق، واغمروا أنفسكم في بحر كتاباتهم النادرة، أنظروا بإجلال كيف عظموا شأن الأسرة كوحدة أساسية للمجتمع، تأملوا بدهشة كيف كانوا لا يزالون بفطرة سليمة يصفون طبائع العلاقات السوية. حتى فولتير نفسه بكل عدائه للجو الديني في عصره، كان يُلحّ بحماس على الزواج؛ لأنه يجعل الإنسان أكثر حكمة وفضيلة، ويُلين قلبه بالعاطفة والرقة. ويؤكد أن تنامي الزيجات يقلل من معدل الجريمة، ويرى أن الجنود المرتبطين بزوجاتهم وأطفالهم هم الأكثر إخلاصًا لأوطانهم، ويُشدّد على حقيقة أن الزواج هو القانون الأول للإنسان!

إذا حتى غلاة المتحررين منهم لم ينحدروا أبدًا إلى مثل هذا التشوه الفكري العميق الذي تشهده الحقبة الراهنة. بل إن فكر البعض منهم كان ليُمثل أصدق تعبير عن رؤية المحافظين اليوم! ولا شك أن معظمهم، لو عاشوا في أيامنا المبتلاة هذه، لوجدوا أنفسهم ضحايا لثقافة الإلغاء الكريهة. فتغرقهم موجات حمقاء من الإقصاء والمقاطعة والحصار والتشهير بل والمعاقبة القانونية إذا لم يلتزموا الصمت! بالإضافة إلى تهديدات الرعاع بالتصفية الجسدية، وكافة أسلحة الاغتيال الأدبي التي صارت تُستخدم بإفراط من قِبل سماسرة الوهم ضد كل من لا يتماهى مع نظرياتهم البليدة الخاضعة لآفة الصوابية السياسية!

إنهم، حرفيًا، يدوسون بأقدامهم على مكتسبات الحداثة وحرياتها لصالح فرض ضبابيات ما بعد الحداثة! يفاخرون بنهضة حديثة لم تقم إلا على حضارة أنشأتها تلك الأسر التقليدية التي باتوا يسخرون منها. أي الرجال والنساء معًا، حينما كان الرجال رجالًا والنساء نساءً، لم تكن قد ظهرت بعد تلك الأصوات التي تشكك في هوية أو كينونة أي منهم. كانت الأسرة تتألف من رجل وامرأة، كما أراد خالقهما، ومن اتحادهما معًا كأزواج تزدهر حياتهم بأطفال! هكذا ببساطة، دون كثير من السفسطة الأثينية. لم يكن هناك التباس في معاني أكثر المُفردات بداهة؛ كانت المفاهيم الأساسية تشع بالوضوح التام، لم تكن هلامية كما نعاينها اليوم. بالطبع، عبر العصور، كان هناك من يخالفون تلك القاعدة، مُضطهدون غالبًا، مُكرمون أحيانًا، والبعض منهم كانت له حظوة في أحيان أخرى نادرة، ولكن لم يحدث قط أن خرجوا من خلفية المشهد ليتصدروا مقدمته. أما الوضع الطبيعي للأسرة، فكان دائمًا معروفًا ومحفوظًا وممدوحًا، بل مُقدسًا.

لا تسيء الظن! لا تغمض عينيك أبدًا عن حقيقة ماثلة أمامك؛ نورها الباهر يكاد يعمي بصرك! خذ نفسًا عميقًا، ثم تأمل – ولو للحظات – في المشهد البانورامي العام لكوكبنا قبل أن تُسارع بإصدار الحكم. هذه ليست مُجرد قضية فارغة يُثير غبارها بعض متعصبي الأديان كما قد يُخيل لمن أصيبوا بانعدام الرؤية؛ ولا هي دعاية لنظرية مؤامرة هشة تفتقر إلى البراهين التي تؤكدها، من تلك التي يروجها المهوسون خفيفو العقل بين بسطاء الفكر من العوام. بل هي حرب ثقافية مُعلنة تجتاح الأرض كلها، تُدار بخطى تدريجية محسوبة، غاية في التنظيم والدقة، تهدف إلى تحطيم أرقى موروثاتنا الإنسانية، وتفتيت الأسس الراسخة لعالمنا الذي طالما عرفناه وخبرناه وأحببناه، على كل نواقصه وعلاته.

كل من ينكر وجود هذه الحرب، وبدون إساءة، هو ليس إلا فاقدًا للوعي، أو داعمًا خفيًا لمن يُشعلون فتيلها، أو متعاطف سرًا مع مساعي حملتهم! إنهم لا ينسجون خيوط شباك فخاخهم الفكرية في الخفاء ليصفها أحدهم بنظرية مؤامرة! بل يفرضون بنود أجندتهم الدنيئة تحت سماء عالمنا الصافية بالغة الصراحة، وبوقاحة وصفاقة وغطرسة تتحدى حتى بريق الشمس الساطعة في عز الظهيرة! وكأن الأرض كلها لم تعد سوى خشبة عرض كبيرة، يتربعون بكبرياء على عرشها، ويهيمنون على كواليسها، ليعرضوا عليها تدليساتهم ومكائدهم الذهنية بأصوات صاخبة، ولم يتركوا لغيرهم إلا مقاعد المتفرجين مكتوفي الأيدي، في صمت عاجز حتى عن التمتمة بأي نقد، حيث لا صوت يعلو فوق صيحاتهم المدوية!

مازلت تنكر! تعاطفك المُفرط مع قوائم الحريات الجديدة أحجب عنك رؤية حقائق الواقع القاسية كما هي! ألا ترى، يا صديقي المُحتج، أنهم سلطويون إلى أقصى حد، يغرسون بأقدامهم في ضرب جديد من الاستبداد، ينحتون قواعد مسار جديد للهيمنة بإصرار مُطلق، يسيرون بشعاراتهم الإنسانية المُلونة على درب فاشية جديدة اتضحت معالمها بشكل صارخ في الغرب، ألم تفهم بعد أنه إذا دانت لهم الأرض بكاملها، سيُحكم على البشر بالعيش تحت سيطرة شاملة في مُعتقل هائل ليس له مثيل حتى في أسوأ الكوابيس التي أفزعت منام جورج أورويل! هذه ليست دعوة منا لقهر الحريات الشخصية كما قد يردد بعض المبتذلين، لكنها صيحة لإدراك أن تقويض العمود الفقري الحقيقي للمجتمعات هو تقويض للمجتمعات بأكملها! بل هي صرخة إنذار لجميع الأجهزة القانونية والثقافية والتعليمية لتقوم بواجبها مُبكرًا في تثبيت المفهوم السليم للأسرة في الوجدان الجمعي العام، لمواجهة هذا المشروع التخريبي للعالم!

فلنعقلها معًا، لو كان مطلبهم يقتصر على ضمان الحريات الشخصية لأفراد تلك الشريحة، تحديدًا في دول الغرب، فلا شك أنهم يهدرون جهودهم ويضيعون أوقاتهم في مساعٍ لإحداث ثقوب في بوابات قد صارت مفتوحة بالفعل على مصراعيها! ولكن، المصيبة تكمن في أنهم لا ينشطون هذه المرة لتأمين حق اختلافهم عن الوضع الطبيعي، بل يسعون بضراوة لما هو أبعد من ذلك بمراحل! يطمحون إلى فرض قبول نمط حياتهم الخاص – والمُخالف لنواميس الطبيعة – على العقل الجمعي للبشرية بالكامل! أي على جميع المجتمعات، بعائلاتها وحتى أطفالها! ليس مُجرد قبول حريتهم الفردية، بل التطبيع الفكري والديني الكامل مع سلوكياتهم ورموزهم وهيئاتهم! فيحولون الاستثناء – الذي لطالما كان محل رفض مجتمعي وديني – إلى قاعدة أساسية! هذا التفكير الكارثي ليس إلا نتاج منطقي لغرقهم في رؤية عدمية مُظلمة للحياة ومآلها، ترى كل شيء يتساوى مع كل شيء، فيساوون بجرأة بين أسلوب حياة خاص مُستهجن في كل الأعراف وبين النمط الطبيعي بيولوجيًا! لأن أعينهم فقدت رؤية ما هو طبيعي بعدما صار كل شيء عندهم سواء – بل عدم!

إنهم غارقون في بحر من اللامعنى! لا يرون في الكون بأكمله سوى أنه جاء نتيجة عبثية لصدفة عمياء! بلا أي هدف أو مغزى. لم يعودوا يؤمنون بأي قيم جوهرية لأي شيء، تلك التي تُعطي للحياة معنى. لذا هم الآن يتخبطون في حيرة عميقة من أمرهم، أودت بعقولهم حرفيًا، فصاروا لا يعرفون ماذا يفعلون حقًا! إنهم يُخربون النظام الإنساني ذاته ليتماشى مع رؤاهم اللاوجودية، ويستجيب لأهوائهم المريضة! بحمق يناطحون صخرة كونية راسخة منذ الأزل بنظريتهم العقيمة.

طرقوا أبواب العلم مرارًا – دون جدوى – للوصول إلى جين يثبت وجود نمط ثالث فلم يفلحوا. يبحثون عن دليل على وجود ما لا وجود له. حتى الانحرافات النفسية التي تشد أصحابها لهذا النمط المرفوض، والتي تُنتج عن سوء التربية وفساد البيئة المحيطة، أنكروها، زاعمين أنها ميول طبيعية! بل صاروا يجتهدون بنشاط محموم لخلق بيئة عالمية تزرع هذه الانحرافات المشوهة بين الناشئة، يُغرسونها في أذهانهم وأبدانهم منذ نعومة أظفارهم! في المدرسة، والجامعة، والإعلام، والسينما، وحتى دور العبادة! يفعلون ذلك تحت رايات الحرية وقبعات التنوير! فهل من يجرؤ منا على الاعتراض؟!

كثيرون يختارون الصمت، لا لشيء إلا لتعاطف يُثقل كواهلهم، أما الأكثر فهم من يتجنبون المواجهة بدافع خوف عظيم يكبل ألسنتهم. يُرعبهم أن يُوصَموا بأنهم غير متحضرين، ويفزعهم أن يشكك أحد في صدق إيمانهم بالتعددية الثقافية وحق الاختلاف. أما أزمتهم الحقيقية فتكمن في عدم قدرتهم على رؤية تلك المعضلة في سياقها الأشمل ومنظورها الأكبر؛ فذلك الحلف المُعادي للإنسان له مُخطط أوسع بكثير من الوقائع الظاهرة! وهذا ليس سوى بندًا واحدًا مجاورًا لبنود أخرى في أجندة ضخمة تستهدف هوية الإنسان بالكامل.

الهوية، التي تُعد العدو الأول لهذه العصبة الجديدة، فهي التي تمنح آراء وقناعات لكل فرد كي يتمحور حولها، بل هي نواة تخلق مجتمعات كاملة تدور في فلكها. إن إبادة هوية الإنسان تعني محو إنسانيته، فهو يتميز عن سائر مخلوقات الأرض بلغته ومعرفته وفنه وصناعته وخلقه وعاداته ومعتقده؛ هذه هي مظاهر الهوية الحقة! ومن ثم، يسعون لتمييع أي هوية للإنسان ليصير بلا ملامح تُميزه عن غيره، وليس الهوية الجنسية فحسب كما قد يظن البعض، بل أن الرؤية الأعمق تستهدف تذويب كافة الانتماءات الفكرية والدينية والوطنية في بوتقة واحدة.

ليس مسموحًا لأي إنسان أن تكون له هوية خاصة يعتز بها! ولكن لماذا يسلبون هذا الحق؟ لأن هذا يُفشل جهدهم الشاق لصياغة مستقبل تنصهر فيه البشرية في نظام عالمي موحد، حيث تتلاشى كل الأنظمة السياسية على اختلافها، وتتبخر الأوطان والحضارات والقوميات، وتُزال الأديان والطوائف والمذاهب، فلا نعود نعرف لأحد أي سمة تميزه، لا ملة ولا دين ولا وطن، ولا حتى جنس! إنه تخريب هوياتي بالكامل! في نظرهم لابد منه حتى لا تبقى أي تجمعات بشرية ذات سمات فريدة ستعارض بالضرورة قيام إمبراطوريتهم الكونية بحجة، يعتبرونها سخيفة، وهي الحفاظ على خصوصيتهم الثقافية!

لذا، هم يكرهون بشدة وجود الأسر المُتحابة والمترابطة، كما يبغضون وجود أي أخويات أو جماعات متحدة في الرأي والفكر، كذلك يمقتون كل أشكال التعاون الإنساني الصادق، ففي فلسفتهم، أي رباطات عميقة بين البشر يجب محوها، بما فيها رباط مُقدس كالزواج. وذلك بزرع بذور الأنانية والفردانية في القلوب قبل العقول، يعزلون الناس عن بعضهم البعض بطرق دنيئة وأساليب متقنة، يراها بوضوح كل من يتأمل في سلوك الكثير من الأجيال الصاعدة، فالإنسان لن يتوحد داخل نظام كوني إلا إذا توحد حول ذاته أولًا. نعم، هكذا يفصلون البشر عن بعضهم ليُسهل التسلط عليهم!

هل جاء هذا في مُخيلتك من قبل؟ إنه باسم وحدة الإنسانية، يُصيرون الإنسان بلا هوية إنسانية! فيتحول إلى كائن هلامي رخو بلا اتجاه، فاقد لأي بوصلة قيمية، غير متمسك بأي مُعتقد، وغير مهتم بالدفاع عن أي قضية، لأنه لم يعد هناك معنى محدد لأي شىء كي يدافع المرء عنه. لم يتركوا للبشر أي فكرة سوى العدم. نعم، هذا هو السيناريو المُرعب الذي يُحاولون فرضه على مستقبلنا، بل هذا هو الهدف الأساسي من ضرباتهم المُدمرة للهويات الإنسانية.

إنهم يسعون بدأب لصناعة إنسان جديد، مُنعدم الإرادة، إذ لا إرادة حقيقية لمن لا هوية له! فالهوية هي مصدر كل الآراء والقناعات، وهي التي تخلق لنفسها إرادة قوية للدفاع عن ذاتها، ولرفض ما يتعارض معها. لكن مع زوال الهويات، وتلاشي الفروق الثقافية والفكرية بين الناس، لن يعود هناك رأي أصلاً ليختلف الناس حوله. تهانينا، لقد صار الجميع واحدًا في كل شيء! وانتهى عصر الاختيار الحر بين الاتجاهات المختلفة، وانتهت الحرية كفكرة إلى الأبد! وصار لزاما على كل إنسان أن ينضوي رغمًا عنه في كيانهم المُوحد، وإلا سيصبح من المتعصبين المارقين المُطاردين على مستوى الكوكب، والمطلوبين لتصفيتهم بلا رحمة!

أما حُجتَهُم الواهية لتسكين ضمائر أتباعهم من المُغفلين، فهي زعمهم بأنه لم تأتِ من الأفكار والأديان والفلسفات سوى المصائب والنزاعات والحروب. والحل برأيهم ليس في نشر ثقافة التعايش المُشترك السلميّ بين المُختلفين، فهذا الحل البائس في نظرهم قد صار موضة قديمة لا تجدي نفعًا؛ إذ فقدوا الإيمان بحقيقة أن التحضر الحقيقي يُكمن في القدرة على التعايش رغم الاختلاف. لذا، لا بد من حل راديكالي أشدّ صرامة، يخنق بوادر كافة الصراعات في مهدها، بل قبل حتى أن ترى النور. فكان الحل العبقري الذي توصلوا إليه هو قمع حق الاختلاف، بحيث لا يكون هناك أي مجال للصراع! وذلك بفرض نموذجهم الخاص على الجميع كمعيار لا مفر منه، ولا يجوز لأحد أن يخرج عنه بدافع هوية أو عقيدة أو رأي. وبالتالي، بزعم تحقيق السلام العالمي، يسلبون من الإنسان حق «التفكير» إلى الأبد!

ألا يشبه هذا الطرح بشكل مخيف ما تنبأ به الأمريكي راي برادبري في رواية «فهرنهايت 451»، والتي تصوّر دولة شمولية تتصدّى للأفكار بصورة مُطلقة، وتُحرق الكتب بحجة أنها قد تثير الفتن والاضطرابات؟ يبدو أنه كان ينافس البريطاني أورويل في سعيه النبيل للتلصص على مستقبل قاتم يخشاه كثيرون، في ظل سعي فاشية جديدة لها سمات محددة للتسلط على الأرض.

لكن الأدهى، بل الأبشع، أنهم يرتكبون ذلك متخفين خلف شعار التعددية الثقافية! أي أنهم يهدفون بخبث، تحت راية التنوع البديع المُصطنع، إلى القضاء على أي تنوع طبيعي أصيل على وجه الأرض. أي تفرد يجب يُمحى فور ملاحظته، حتى على صعيد الفكر والرأي. بل الأخطر أنهم يريدون إفناء جميع السرديات الكبرى التي لولاها لما وُجد أي تقدم إنساني. لن تعود هناك أي منافسة فكرية من أي نوع! التحدي الفكري ذاته سيضمحل لأنه لم يعد هناك أي مجال للاختلاف! فالجميع مُجبرون على الانصياع لهم في نهاية المطاف! وبذلك، تتلاشي إرادة الإنسان بعدما تلاشت الخيارات أمامه، وسيفقد حتى الرغبة في الارتقاء في أي ميدان شخصي أو عام. سيكون مُجرد أداة مُسخرة لخدمة نظامهم الاستعبادي المُرقمن الجديد، عبدًا من نوع جديد، لم يشهد التاريخ مثله من قبل! عبد سيبراني مُسلوب الإرادة، لأسياده كامل السيطرة على عقله وقلبه، ولا يحق له أن يتبنى عقيدة خاصة أو توجه محدد يُخالف رؤيتهم البائسة للحياة.

فيغدو البشر كأوراق متساقطة من شجرة واحدة. على قالب واحد بلا أدنى اختلاف، كنُسخٌ متطابقة بلا أي تمييز! مُجردين من أي قدرة على المُعارضة أو المقاومة، مُنهكين تمامًا، بلا حماس أو حيوية لإنجاز أي شىء. لا يعيشون إلا لإشباع رغباتهم الشهوانية بعدما فقدوا حرارة الإيمان، وغارقين في فراغ روحي هائل، فلا يستهلكون إلا المنتجات المادية بكافة صورها القديمة والمستحدثة. وفي هذا الوضع المُشين، يصبح من السهل قيادتهم ليصيروا مُجرد مُستهلكين مُستضعفين لبضائعهم رخيصة القيمة باهظة الثمن، ويعاد توجيههم بما يتلاءم مع مصالحهم العظمى في عالمهم الجديد. هذا العالم الذي يحتاج إلى أردأ نوعية من التابعين السلبيين، ليدوروا في استسلام داخل دوامة الاستهلاك اللانهائية.

ولنأخذها قاعدة راسخة لا استثناء لها، بل هي نصيحة من ذهب خالص. فقط من يصبر على التمسك بأصوله في خضم تلك المعركة الضارية هو من سينجو من هذه المطحنة! كل الأمم التي ترفض الاندماج في عالمهم الجديد، كأنها تقاوم حتفها! كل التجمعات والفرق والعائلات التي تحافظ على فكرها الخاص الذي يُميزها عن غيرها، كأنها تحافظ على روحها! لأن نظامًا واحدًا لكل البشر مصيبة، تمامًا كما كان القطب الواحد كارثة، لا يمنح هذا النموذج الوحدوي العالمي لأي إنسان حق أن يتنفس في فضاء يناسبه هوائه. فلا حرية حقيقية في عالمنا إلا بالحفاظ على التمايز الواضح بين الحضارات! عدم وجود اختلاف يعني ببساطة موت المُعتقد أو الرأي. لذا سيكون أفراد الجيش الجديد لهذا النظام الواحد من أراذل الناس وأسفلهم وأكثرهم وضاعة، لا يدفعهم للقتال سوى المنافع المادية البحتة، لأن الجيوش لا يمكن أن تُحارب من أجل العدم، إلا إذا كان أفرادها من المرتزقة، الذين لا يؤمنون إلا بملء جيوبهم وحشو بطونهم!

لذا، كانت المرحلة الأولى في مخططات تلك العصبة، تتمثل في تشويه صورة كل من يحاول الالتزام بالأصول التي يؤمن بها، وتلطيخ سمعة كل من يُخلص لثوابته القديمة، أي الأصوليون. وبدأ التشوية بإشاعة خلط فادح بين الأصولية والفاشية. نعم، ما أكثر الأصوليون الفاشيون، وما أوقح تدخلاتهم في شئون الأفراد، والتي تطورت في مجتمعات كثيرة إلى حالة إرهاب عام شامل! ولكن في المقابل، هناك أيضًا متحررون من الأصول يبدون أكثر فاشية من بعض الأصوليون! يسعون باستماتة لفرض آرائهم، تحت راية التنوير، على المؤسسات التقليدية المُحافظة بصورة سُلطوية مقيتة، ويضغطون بخسة ورذالة على المُجتمعات المحافظة كي يتبنوا أفكار وممارسات غارقة في التحرر الأخلاقي! كما نرى أصوليون شرفاء متمسكين بمعتقداتهم، يرون فيها المعنى المُطلق للحياة، لكنهم مع ذلك لا يسعون لفرضها على أحد، ولا يتدخلون في شأن كل من يرغب في التحرر منها، وذلك لإيمانهم الصادق بحق الاختلاف! إذًا، الفاشية لا ترتبط باتجاه فكري معين، أصولي كان أو مُتحرر، ولا تنحصر في أيديولوجية محددة، بل ترتبط فقط بمن يحاولون فرض فكرهم الخاص على المجتمع بأكمله، فردًا فردًا! وصولًا إلى إذابه جميع الاختلافات لتصب في صالح مُعتقدهم في النهاية!

وبنفس الخِسّة الذميمة، انطلقت المرحلة الثانية بترهاتها الأسخف، وبدأوا يسقطون فاشيتهم المقيتة على من يرفض اتباع مسلكهم في الحياة! فصوروا لتلك الفئة الجديدة – المُخالفة في خياراتها لنمط الزواج المعروف – أن فرض قبول ثقافتهم على جميع البشر هو حق شريف لهم! ليفرضوا علينا فرضًا قبول عاداتهم الخاصة جدًا المُخالفة لقوانين الطبيعة! فصنعوا من بعضهم أداة لتشويه الهوية الجنسية للإنسان، وذلك باصطناع عشرات الهويات الجندرية الزائفة داخل نمط ثالث للزواج. أتخذوا من ألوان العهد السمائي القديم رمزًا لهم، بعدما أنقصوها لونًا واحدًا. ومع الوقت، تحول ذلك النمط من سلوك خاص لا يجب تشجيعه إلى نموذج بطولي يُروج له بين الناشئة كأنه القدوة والمعيار! لم يكتفوا فقط بتقنينه، بل ينشطون لتعميمه في كل أرجاء الدنيا، ليصير هو النموذج الطبيعي، والزواج الحديث، والعائلة الجديدة! بل وصلت بهم الوقاحة إلى المُطالبة بإعادة تعريف الزواج نفسه!

أما الزواج الطبيعي، أي الحقيقي، فينظروا إليه الآن ككيان تقليدي بائس وممل. وبات هو الفعل الشاذ الممقوت، المُخالف لنظام العالم الجديد. فينقدونه وينقضونه بكل السبل، بتشجيع الشباب على العيش المُشترك دون زواج، وفتح باب الطلاق لكل سبب، ثم التحريض علي اللجوء إليه لأتفه سبب! وتشجيع الأزواج للدخول في علاقات ماجنة، تحت اسم «العلاقات المفتوحة»! هكذا باركوا كل خروج على قيم الأسرة التي اعتبروها قيود ثقافية واجتماعية على حرية الفرد! ثم أخيرًا أوغلوا في تدليل الفئة الجديدة، بتشجيعهم على تبني أطفال مجهولي النسب أو منسوبين لأسر متفككة. ثم بتشجيع تبني طفل يُنجب لهم خصيصًا! فيسحبون الرضيع من أمه فورًا كي لا تتعلق به ويتعلق بها. وبهذا، لن يعرف هذا الطفل أبدًا أي شىء عن أصله – الحقيقي. وحينما يكبر، لن يتعجب من وضعه شديد الغرابة، لأنه منذ صغره قد اكتسب صورة ذهنية مشوهه عن شكل العائلة!

لعل هذه هي الخطوات الأولى لإنشاء عالم جديد مُقبض بلا أي صفة إنسانية، عالم بلا عاطفة أو فن أو إيمان، عالم يستغنى تمامًا عن الزواج ويُفضل إنشاء النسل بتكوين الأجنة في مختبرات بعيدًا عن أرحام النساء، وينتج أطفالًا مُبرمجين لأدوار مُحددة ورغبات مُعلبة، كما تنبأت بذلك الرواية الديستوبية الشهيرة: «عالم جديد شجاع»، هكذا من الواضح أن ألدوس هكسلي قد سبق أورويل وبرادبري في توقع الحيل الخطيرة التي ستتبعها الفاشية الجديدة!

كان من البديهي أن تُطالب تلك الفئة، مثلًا، بأن يتركهم الناس وشأنهم، ليعيشوا حياتهم بحريتهم كما يشاؤون، دون أن يترصدهم أحد. ولكن الواقع يعكس صورة مغايرة تمامًا؛ إذ نجد الأسر المُحافظة في الغرب، حماةُ الأصولِ القديمة والشريفة، صاروا هم المرتجفون من هجمات التغيير المُتلاطمة، بل تحولوا إلى موقف الدفاع عن أنفسهم! محاولاتهم النبيلة لحماية فلذات أكبادهم باتت تُصنف فورًا كأفعال كراهية! الثقافة الجديدة المشوهة تُفرض عليهم بأساليب تسلطية حقيرة تثير الاشمئزاز، تغول بغير حق على حرية العقيدة سواء للأفراد أو حتى للمؤسسات الدينية! يصل إلى السعي لمحاكمة كل من يجرؤ على وصف هذا السلوك بأنه «خطيئة»، حتى لو نطق بهذا على منبر داخل الكنيسة! إنه عصر إرهاب يُذكّرنا بفظائع سنوات حكم روبسبير المُظلمة عقب الثورة الفرنسية. الفرق أنه لم يعد يقتصر على حدود فرنسا، بل تتسع رقعة سيطرته على الأرض يومًا بعد يوم، عازمًا على فرض نظامه القيمي على الكون بأكمله!

فهل من العدل والإنصاف فرض قبول هذه الثقافة على الكنائس؟ إن الكنيسة الأمينة لأصولها القيمية لا تُبغض تلك الفئة كما يظن البعض، ولا تتدخل في حرياتهم وسلوكياتهم الشخصية ما داموا خارج عضويتها. بل إن أفرادها مطالبون بأن يقدموا محبتهم الصادقة للخطاة قبل الأبرار، وللأعداء قبل الأقرباء. لكن افتئاتهم الشنيع على حرية العقيدة جعلهم يحجرون على أبسط حق للكنيسة في أن تنظر إلى هذا الفعل باعتباره «خطيئة» لا يمكن مباركة مرتكبيها. كما يحاولون سلب الحق القانوني للكنيسة في أن ترفض عضوية أي شخص مخالف لأكثر مبادئها الروحية وضوحًا، بينما يسمحون بهذا الحق الطبيعي لأي مؤسسة أخرى تحاول الحفاظ على مبادئها الدنيوية، سواء كانت هذه المؤسسة حزب سياسي أو جهة إعلامية أو حتى نادي رياضي!

لقد تعدوا حدود حرياتهم لأبشع مدى! حتى وصل التجاوز في مُظاهرة لهذه الفئة في أثينا إلى أن يتبادل اثنان منهم القبل أمام إحدى الكنائس، وهما يرتديان زيا كهنوتيًا ليس لهما، ويرفعان لافتة غبية تقول «الحب ليس خطيئة»! ثم نجد محكمة في فرنسا تحكم على كاهن لأنه قال أن الكتاب المقدس يؤكد أنها خطيئة! يا للهول! أيها الناشط الحقوقي المُطالب بالحرية! من حق الكنيسة أن تلتزم بإيمانها الصارم بأن هذا الفعل خطيئة، ومن حقك ألا تراه كذلك. ماذا تريد أكثر من ألا يتدخل أحد في شؤونك؟ ألا يُمكنك التعايش باحترام دون فرض أفكارك على الآخرين؟ لماذا تجبرني على قبول ما لا أؤمن به؟ لماذا لا تلتزم بالمطالبة بحريتك الشخصية دون أن تتغول برؤاك المتحررة لتفرضها على كنيسة مُحافظة؟

إنه قهر حقيقي يعصف بالمؤمنين بكافة فئاتهم في الغرب. على المُلحدون أنفسهم أن يقاوموه لسبب بديهي، وهو أن المزايدات الفاشية لهذه العصبة لن تتوقف أبدًا عند المؤمنين فحسب! إنها تسعى بجد حتى تمسخ أي فكر أو ثقافة أو هوية لدى الجميع دون أي استثناء. لذا، نحن في أشد حاجة إلى وضع عقد اجتماعي عالمي جديد يُلزم الجميع بحرية المُعتقد حقًا، ويؤكد على حقيقة أن جميع المجموعات الإنسانية على اختلافها تتعايش سويًا داخل المجتمع، بشرط ألا تفرض أي مجموعةٍ منهم معتقداتها على الآخرين. كذلك، ليس من حق أي مجموعةٍ أن تفرض عضويتها على الجميع، كما لا حق للفرد في فرض قناعاته الخاصة على أي مجموعة، أو فرض عضويته على مجموعةٍ قرر مخالفة قيمها باختياره. علينا جميعًا أن نجاهد للحفاظ على حق كل منا في التعبير عن ما يؤمن بأنه حق، حتى لو أختلفنا معًا!

ولكن ثق في قولي هذا، لن يكفيهم أبدًا أن تُعلن عدم تدخلك في شؤونهم، خاصة إذا اشترطت عليهم المعاملة بالمثل، بألا يتدخلوا هم أيضًا في شؤونك، وأن لا يحاولوا فرض ثقافتهم الخاصة على حياتك! صدقني، مهما قلت لهم إن حرية العقيدة هي أيضًا حق من حقوق الإنسان، وأن من حقك أن تعيش حياتك مع أسرتك – بل ومجتمعك – وفقًا لقيمك الإيمانية وثوابتك الأخلاقية، لن يستمعوا لك أساسًا، لأنهم لا يكترثون بحقوقك ولا بحرصك على قيمك، ستكون كمن يصرخ كالمجنون في وادٍ لا صدى لصوته فيه!

هم يؤمنون فقط بحقهم الكامل في أن يبرمجوا أطفالك منذ الصغر على مفردات ثقافتهم الحديثة المُتطرّفة، مشوشين أذهانهم بفكرة حق كل طفل في تغيير جنسه في أي وقت، لأنه ربما يكون في الجسد الخطأ! وأن الأسرة الطبيعية ليست بالضرورة تلك التي تتكون من أب وأم، بل من الممكن أن تكون من أب وأب، أو أم وأم! تخيل أن مدارس عديدة ترفض حتى تحديد جنس الطفل، وذلك ليكتشف الطفل كينونته بنفسه كما يريد، أو لنكون أكثر دقة، كما تُملي عليه تلك البيئة المُتعطنة التي صنعوها عمدًا حوله! فيكتشف الطفل المسكين نفسه تحت سطوة ثقافتهم المُروّجة بكثافة مُنفرة في السينما والدراما المُسلسلة والألعاب الإلكترونية، ناهيك عن انحيازات مُعظم الشبكات الاجتماعية الجديدة لتلك الثقافة – المُدللة! نعم، هذه الحقيقة نعيشها الآن، فكل طفل يُولد يتعرض لضغط نفسي وعقائدي عنيف ليفقد هويته كذكر أو كأنثى، فيتخلى عن قيم الأسرة والعائلة!

لقد نسجت شبكة الطغيان هذه أجواء قمعية في أروقة الغرب ليس لها مثيل في تاريخنا القديم أو الحديث. لا يسود فيها سوى الخوف والتنمر والتشهير. لم تترك العصابة المُجرمة للمناضلين ضدها أي مجال خارج سيطرتها، فهي تتسلل إلى كلّ ركنٍ من أركان الحياة، تحكمت حتى في الفكر والفن والإبداع، بل وفي البحث العلميّ، كي تفرض نظرياتها الخائبة التي عجزت عن الدفاع عنها. هكذا يُسيِّسون كل شيء، حتى العلوم، لتتوافق مع رؤاها الخربة لعالمنا. هي بحق موجة ضارية متوحشة بالغة الشراسة تعمل على غلق أي باب لأي عائلة نبيلة تريد أن تربي أطفالها كما اعتادت بصورة طبيعية. حتى لقمة العيش يسعون لنهبها من كل فرد يرفض أن يُسلم لهم أطفاله ليعبثوا بهوياتهم كما يريدون. يكاد المرء أن يفقد حقه في التنفس إذا أصر على مُخالفتهم. هل سبق أن مر عالمنا بإرهاب فكري أحقر من هذا؟ّ إنهم براديكاليتهم المجنونة يأسرون حتى أبواب النقاش المجتمعي العام. وذلك لعدم قدرتهم على الدفاع عن أوهامهم. فلا يلجأ لمثل هذا الإرهاب الفكري إلا ذوو المنطق الضحل!

لطالما كانت «حرية التعبير» أسطورة تتردد صداها في الغرب، وباسمها الذي أضحى مُقدسًا، وتحت رايتها التي ارتفعت فوق كل الأعلام، خسفوا بكل مُقدسات وحضارات الشعوب تحت أقدامهم. ولم تسلم المسيحية بالذات من تيارها الجارف، فاستحلوا نقدها ونقضها بكل أريحية في ساحتهم الفكرية على مدار قرنين من الزمان. أصبحت هي وأبناؤها مستباحين ليس فقط للنقد، بل أيضًا للسب والسخرية. حتى بات ازدراؤها اليومي مثالًا على تحول حرية التعبير إلى معيار مُطلق لا يُمكن لأحد أن يُشكك فيه.

حتى وصل الأمر إلى ازدراء سر أسرار المسيحية، أي الإفخارستيا، في حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في باريس، العاصمة الثقافية لأوروبا، في محاكاة ساخرة للوحة العشاء الرباني، وهي في الواقع تقليد للوحة «مائدة الآلهة» للفنان الهولندي جان فان بيجلرت، والتي تسخر بشكل ما من لوحة دافنشي الشهيرة، حيث تضع آلهة الأولمب بدلًا من المسيح ورسله. لكن في الاحتفال الباريسي ظهر هؤلاء الأولمبيون في صورة رجال يرتدون أزياء نسائية، وأنماط أخرى مخالفة للوضع الجنسي الطبيعي، وإشارات أخرى حقيرة تدعو إلى البيدوفيليا، يراها بوضوح من لا يبذل جهدًا لخداع ذاته، في محاولة منحطة للتطبيع بين المسيحية وأجندتهم الخبيثة في الصورة الذهنية العامة. هذه المرة لم يزدرِ المسيحية فنان هنا أو كاتب هناك أو مؤسسة ما، لنسمّيها حرية تعبير، بل جهة رسمية دولية مُطالبة بأن تكون في غاية الحرص على احترام جميع الفئات العرقية والدينية!

لقد قد وصل المسيحيون في زماننا إلى أعلى درجات الرقي في تفهمهم للآثار السلبية لـ «حرية التعبير». اعتبروها حربًا فكرية لا يواجهها الواثق بمُعتقده إلا برأي مضاد. ساعد على ذلك أن المسيحية في أصلها ونصها مُسالمة إلى أقصى حد. ولكن، بمُجرد أن أعلن المسيحيون عن رفضهم التام للانصياع لترهات الثقافة المُدللة، مُجرد الرفض، حتى تعاملت القوانين الغربية مع رفضهم على أنه خطاب كراهية تحريضي! في حين يدرك المسيحيون، كأي أفراد متحضرين، الفارق الهائل بين رفض سلوك مُعين لفئة ما وبين التحريض ضد تلك الفئة. لكن المُدللين فقدوا رجاحة عقولهم، فلم يعودوا يفهمون الفرق. فصار الرافض لثقافتهم في مصاف المُحرضين ضدهم لإيذائهم! بل أن كل من يحمي أسرته، متمسكًا بثوابته الدينية وقناعاته الأخلاقية ، صار مُجرمًا بحسب رؤيتهم المُختلة!

أين اختفى ذلك العقل الكبير الذي يشتهر به الغرب؟ هل ضاعت بوصلته في زحمة ما بعد الحداثة؟ هل أزالوا ما اعتبروه أصنامًا من المعابد القديمة ليفرغوا الساحة لاستقبال وثنٍ جديد؟ هل سبوا كل الرموز الدينية بأحط الألفاظ وأدناها، ليُحجروا على أبسط نقد موضوعي لإلههم المُصطنع؟ فيحكمون قبضتهم بعنف على أي همسة تطاله، صنمٌ كان مستهجنًا من الجميع، ولا يزال، جعلوه الآن مُقدسًا لا يُمس أبدًا ولو بحرف! بل لا يمكنك حتى أن تناقشه مُجرد مُناقشة، حاول مشاهير ملء السمع والبصر أن يفعلوها فافترستهم الألسنة حتى أضمحل وجودهم في المشهد العام! بل صار البعض منهم على قناعة بأن من يرفض الاندماج داخل ثقافتهم المتسلطة هو نموذج لا يستحق الحياة! تسقط بشريته بالكامل في لحظة! لذا ليس غريبًا أن يُهاجم كثيرون في الغرب قانونيًا ومعنويًا بل وبدنيًا لرفضهم الانصياع! إنها أساليب المافيا، بل هي – حرفيًا – مافيا!

الغرب، الذي تفوق قرونًا على سائر الأمم، يقف مترددًا عند مفترق طرق تاريخي، نائمًا رغم أنه على حافة الهاوية! وفي ظلاله الباردة، يلوح له في الأفق شبح فظيع على وشك زعزعة أركان حضارته بأكملها، يهدده لا فقط بالعودة إلى ظلمات التاريخ، بل إلى ظلمات النسيان بالغرق الكامل في دوامة الاندثار! خلف ذلك الخطر، تقف تلك الفاشية المُتعلمنة التي لا تقل شرًا عن نظيرتها الدينية، بل إن خطرها يتجاوز الحاضر ويمتدّ إلى المستقبل. وفي طياتها تلبد كامنة رغبة شهوانية جامحة لتدمير أصلب الأساسات، خاصة بعد انتشار التشريعات الجديدة التي تدعي إطلاق العنان لروح الحرية، تحررًا من قيود الماضي، فإذا بها تغفل في ذلك جوهر الحياة نفسه، فتحطم السنن الكونية بتحريرها لكافة العلاقات الجسدية من أي أعباء أو مسؤوليات. لقد أفرغت حتى المشاعر النبيلة من معانيها، فصارت كسيف مسلط على الحب الذي لم يعد له ضرورة! وبنفس السيف، تقطع أواصر الإنجاب، وبمدفع ثقيل، تستهدف أي محاولة رقيقة لتكوين أسرة بسيطة ومُتحابة، ما جعلها تصارع للبقاء في مواجهة عواصف الإنهيار الديمغرافي الهائل الذي يهدّد بمحو حضارتها الحديثة من الوجود!

لقد تحول التعاطف المُفرط مع فئة بعينها إلى قناع يُخفي وجه الحقيقة، بل إلى هروب جبان من قراءة الواقع! لكن إنكار الواقع ليس إلا مقدمة سخيفة للندم الذي سيأتي بعد فوات الأوان، ويومًا ما، وربما في القريب، ستحل أيامٌ مظلمة يدفع فيها الغرب ثمنًا باهظًا لكل هذه الترهات. والخوف كل الخوف أن يشارك الشرق أيضًا في هذا الثمن! خاصة بعدما ألتفت مُنظروهم فارغوا العقل إلى الشرق التعيس ليصدروا له خرابهم العاجل من خلال دعاوي تنشرها بينه كائنات مشوهة النفس قبل الفكر. الحقائق المُجردة لا تستثني من يتجاهلها، فكل مجتمع يفقد الرؤية الصائبة لمفهوم الأسرة سيسقط حتمًا، وكل دولة تسمح لهذه الرؤى المزيفة بالتسلل إليها ستضمحل بمرور الوقت. وويل لكل أمة تسلك هذا المسار في لحظة غفلة عن الحقيقة، وكل الويل لأي قوة عظمى باطشة تأخذ هذا الطريق الجهنمي، فالشياطين التي تخلقها ستفلت من بين أيديها لتنقلب عليها حتمًا.

هكذا مصير الغرب إلى إضمحلال كامل، ما لم تنتفض شعوبه بسرعة! لن تنقذه علومه ولا خططه ولا مخططاته من هذا المصير، بل فقط الإيمان! لا خلاص بدون قوة الإيمان العميق! هو سر النجاة الوحيد! قالها دوستويفسكي بإلحاح من قبل في مُعظم أعماله التي تنبأت بكل ما يجرى الآن. حتى باسكال، راهن على الإيمان بطريقته الخاصة، لكن يبدو أن صوت نيتشه المأزوم كان الصدى الوحيد في آذانهم! نيتشه، الذي أعتبر الإيمان لونًا من الاضطراب الذهني، ولم يترك قيمة موروثة واحدة إلا وأحتقرها في شّذراته المُعتلة. وأعتبر أن وجود نظام أخلاقي للعالم هو مجرد كذبة تورط فيها حتى الفلاسفة المُحدثين، بما فيهم الفيلسوف كانط الذي وصفه بالآبلة بسبب أخلاقياته المسيحية! ثم جاءت تفكيكية ما بعد الحداثة لتقضي بالضربة الأخيرة على ما تبقى من المعايير اللازمة لبقاء الإنسان، وتسطو على كل قيمة لتفرغها من معناها بحجة التجديد، وتتلاعب بالكلمات لتحريف معاني النصوص الأصيلة تحت اسم التأويل، حتى قادتنا حرفيًا إلى اللاّمعنى!

لعل أزمة عالمنا المُعاصر قد بدأت منذ نظر نيتشه بعقله المضطرب إلى القيم الإنسانية الرفيعة في المسيحية، بفكره المريض لم يرَ فيها سوى المثال الأبرز على أخلاق العبيد الضعفاء! وبرؤية قاصرة، لم يدرك أن هذه القيم ليست أصل الأزمة، بل هي الحل الحقيقي الذي ليس لغيره وجود! وكأن العالم بأسره يجب أن يدفع ثمن عجز نيتشه على الاندماج في مجتمعه المسيحي، ما جعله ينقلب عليه مُدعيًا أنه أرقى منه! الكثيرون لا يعلمون أن كراهيته للمسيحية كان أساسها أنها دعت إلى المساواة بين النفوس أمام الله! هذه بالذات أثارت غيظه، واعتبرها حجة الضاغنين الأكثر انحطاطًا! ليس غريبًا أنه هاجم الثورة الفرنسية كذلك لندائها بالآخاء والمساواة. كان من الممكن لنيتشه أن يكتفي بطرح رؤيته المتطرفة المُناقضة للمسيحية، وهذا حقه بالمناسبة، شأنه شأن غيره ممن رفضوا الاندماج بمنظومتها القيمية التي بدت لهم مثالية أكثر من اللازم، لكنه قرر إعلان حرب شاملة ضدها! لم يدرك أنّه بحماقة أحدث شرخًا عميقًا بأعمدة القصر البهي الذي يستظل به الغرب بأكمله!

رغم كونها حقيقة لا فكاك منها، إلا أن بعضًا من المثقفين الماديين يصر على أن يشيح بوجهه عنها، وهو أن ما نسمّيه بالأخلاق الإنسانية لا ينبع إلا من الإيمان بقيم عالية تنتمي لعالم سام يتجاوز الوجود غير المادي. أي في تلك التي يصفها نيتشه ساخرًا بالديانات السردابية! وعلى رأسها بالطبع، تتلألأ المسيحية! ولا عجب أن نيتشه في شذراته التائهة كان يضم الديانة المصرية القديمة مع المسيحية في قائمته السوداء تلك، رأى فيهما وجهًا من وجوه مثالية أفلاطون، والتي كان يزدريها بعمق. وبقصر نظر، رأى فيهما ضعفًا يناقض خشونة قيم روما القديمة، التي كانت نموذجه المُلهم!

رغم أن تلك القيم التي رفضها نيتشه تُمثل الأخلاق التي تليق بالإنسان المُتحضر كما نعرفه ونُعرفه، أما إنسان نيتشه فأخلاقه مستوحاه من الغرائز الجسدية، بما فيها من لذات ومنافع آنية بحتة! أخلاق وحشية ساذجة أسهمت في نشر الفردية والأنانية على حساب التعاون والتضامن الإنساني. أخلاق لا تؤدي إلا إلى قسوة مُفرطة، وهي تطبيق حرفي لمبدًا «البقاء للأصلح» الحيواني، والذي لا يصلح إلا في الغابات المُوحشة، لا الحضارات المتمدنة. الغريب أن نيتشه ظل طوال حياته مريضًا بعلل متنوعة، ولو عاش في الغابة التي كان يدعو إليها لكانت افترسته افتراسًا، نستطيع أن نقول بضمير مستريح أنه لم ينعم بالأمان إلا بفضل تلك القيم السامية التي أحتقر وجودها وأنكر صحة مصدرها.

هكذا سار على درب كاتبه المفضل، فولتير، الذي كان مولعًا هو الآخر بحضارة الرومان! وكانت كراهيته لديانة المصريين القدماء لا تقل عمقًا عن كراهيته للمسيحية. وجهله بها أيضًا لا يختلف كثيرًا عن جهله المعروف ببديهيات المسيحية. لكنه على عكس نيتشه، لم يكفر بوجود المهندس الأعظم، بل كان على إيمان كامل بوجود كائن أسمى يُحرِّك الكون، مهندس أعظم لولاه لما كنا كائنات ذكية. وكان موقنًا بأنه من المستحيل أن يكون العالم بلا إله! بل يرى وجوده حقيقة لا يمكن الفرار منها، لأنها تحيط بنا وتضغط علينا من كل الاتجاهات. ووصف الطرح القائل بأن الكون نشأ نتيجة علة عمياء بأنه حماقة قصوى ومنطق واهن وعناد غبي! علاوة على ذلك، هاجم الصحافيون في زمانه لأنهم يمدحون من ينكرون وجود الله، في حين أنهم لم يمدحوا عابدان لله مثل نيوتن ولوك. كما عارض بشراسة المادية الإلحادية بكل صورها، وقال قولته الشهيرة بإن الإلحاد رزيلة يقترفها قلة من الأذكياء!

بالطبع لم يتخيل نيتشه وفولتير أن باب المزايدات الفكرية لن يتوقف عند أبواب المسيحية وأهلها. لو قرأ البعض اليوم – من مرتزقي التنوير – بعضًا مما كتبه فولتير عن الإلحاد، لأعتبروه متعصبًا ضد الملحدين، لا رمزًا خالدًا للتسامح! رغم أنه لم يفعل أكثر من أنه عبر عن رأيه بحرية! ومن المفترض أن حرية الرأي هي الأساس في أي تنوير حقيقي، بما في ذلك حرية التعبير عن المعتقد. وما أقوله عن استحالة توقف المزايدات ليس خيالًا. فقد قام البعض من الغوغاء بمحاولة لهدم التمثال الشهير لفولتير بالفعل، لأنهم أكتشفوا – فجأة – أنه كان يشارك في التجارة بالعبيد في الحقبة الاستعمارية، وأنه – حتى في بعض كتاباته – كان رمزًا بغيضًا من رموز العنصرية، وأن سجلات حواراته مع فريدريك ملك بروسيا كانت مُلهمة لهتلر! لمثل هذه المفارقات لا يجرؤ كثير من مُتاجري الأفكار التنويرية على النظر بجدية في مرآة التاريخ.

ورغم أن شعلة التنوير، التي أشعل فتيلها فولتير وديدرو وكثيرًا من جماعة الموسوعيين، قد سبقت الجميع في إذكاء عداء جارف للمسيحية بصورة ما، حتى أن بعضًا من الباحثين المُحدثين يؤكدون على أن كراهية فولتير الشديدة لبعض الجماعات الدينية – بما فيهم المسيحيون – كانت كافية للتحريض على العنف ضدهم، إلا أنه من البديهي أن نقول بأن نيتشه كان بحق قنبلة موقوتة انفجرت في قلب أوروبا، فهو أول من بذر بذور حملة التسلط الفاشية ضد المسيحية في الغرب، فقبل أن يبتلعه هذيان العظمة، ويختل عقله بنوبة حادة من الشلل الجنوني العام، نشر هجومًا محمومًا ضد المسيحية في شتاء عام 1888، في سبعة بنود يكفر فيها بحرية المُعتقد حرفيًا، داعيًا إلى حرب حتى الموت ضد المسيحية، كما دعا لسجن الكهنة وتجويعهم والرمي بهم في الصحراء القاحلة، وهدم الكاتدرائيات، وإعتبار أن كل مُشاركة في طقوسها هو تعدٍ على الأخلاق العامة يتوجب التعامل معه بقسوة! ولم ينسى أن يدعو لمحو أي أثرٍ للمسيحية من على وجه أوروبا، وتدمير جميع المدن الحاضنة لهذه الديانة مع تسويتها بالأرض!

ليس تعنتًا من جانبنا أن نربط نيتشه بالفاشية الجديدة التي تضع الإيمان مرمى لأهدافها، ولا هذا مجرّد تحليلٍ عابرٍ، فهو حق ظاهر أمامنا بوضوح كسلسال طاغٍ مستمر يفرض نفسه. بل إن حشر البعض لنيتشه في فئة الفلاسفة العقلانيين هو الأمر الغريب والمُفتعل، لأن دعوته المُتّقدة لإرادة القوة كانت حربية بامتياز، لذا نال كل ميل غربي للتأثر بالشفقة المسيحية كامل احتقاره! تلك الشفقة التي أزعجت نظرته القاسية التي لا ترى في عالمنا سوى سادة البشر من الأولمبيين، الذين لهم كامل الحق في استرقاق العبيد لمجرد أنهم يقدرون على ذلك، وما الحق في مفهومه إلا ما يؤخذ بالقوة والغصب، لذا فالقوة الحربية عنده هي الحق الأول.

ولأجل كل ذلك، استحق نيتشه بجدارة أن يكون العدو الأكبر للسلام، ونبراسًا لكل قادة الفاشيات التي أعقبت رحيله، بعدما وجدوا في طرحه أقوى دعامة فلسفية لهم، ومصدر إلهام لا ينضب لنظرياتهم المتطرفة. نازية هتلر بالذات كان لها نصيبٌ كبيرٌ من قسوته على الضعفاء، وفاشية موسوليني أعلنت صراحة عن إعجابها بأطروحاته. ولم تختلف البلشفية السوفيتية كثيرًا، فهي مُدينةٌ لافكاره بالكثير، قيم القوة والسلطة والسيطرة والسيادة والاستحواذ التي ميزت الإمبراطورية الرومانية، والتي يضعها نيتشه فوق رأسه مُقدسًا إياها كأنها بلا عيب!

ولكن، لماذا كل هذا الحديث المُفرط عن نيتشه؟ سأخبرك، لأن قيم السادة الطغاة والتفوق السوبرماني التي رسخها، هي ذاتها القيم التي يأخذ بها سادة العالم الجديد منهجًا لهم. وليس هذا بالأمر الغريب، فنيتشه نفسه كان يرى أن من يسير على نهج فلسفته سيكون ضمن سادة العالم! لعل الفارق الوحيد بينهما أن الأولمببيين الجدد، كما رأينا رموزًا لهم في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس، يدعمون الاتجاهات الاجتماعية الأكثر انحطاطا لا أكثر! لكنهما ينبثقان من ذات الينبوع الكريه الذي لا يجف من الشر، بل أن مستوى الشر أرتفع بالبعض منهم لدرجة الاعتقاد في نظرية المليار الذهبي، والتي تقضي بإفناء البشر عديمي الجدوى، مع استبقاء قلة ذهبية مُختارة لا تزيد عن مليار نفس! ولعل الترويج للنمط الثالث في الزواج، والذي لا يثمر أطفالًا، يساعد بصورة أو بأخرى في تطبيق تلك النظرية.

أسمع الآن متحذلقًا يقول ساخرًا: «نظريات المؤامرة هذه التي فتكت بعقول الناس»! مهلًا يا عزيزي، لا أدعوك هنا لتصديق هذه النظرية بمفهومها الشائع، لكن المشكلة أن بعض من لمستهم أهداب الشر يصدقونها بالفعل، ويسعون بجدية لتطبيقها. بل أنني سمعت بأذني من يرددونها عن اقتناع بإعتبارها الحل الوحيد لأزمة تناقص الموارد الطبيعية! ومن المعروف أن كل فكرة رديئة ستجد من يسعى لتنفيذها إلا إذا حوربت بشدة بصورة دائمة. لكن البعض منا من كارهي نظريات المؤامرة لا يحاربها إلا بالسخرية والتسفيه، لأنهم لا يدركون خطورة وجود الأفكار الرديئة في حد ذاتها، فهي وحدها كفيلة بإستقطاب عقول تسعى لتفعيلها! بالضبط كما يسعى جاهدًا بعض السادة الآن لتطبيق بنود نيتشه السبعة، لكنهم بخسة الجبناء لا يعلنون عن رؤيتهم بمثل جراءته، بل اتخذوا أسلوبًا أكثر نعومة بدفع المأزومين والمُجدفين والخونة لتخريب الأنظمة الهيراركية الكنسية من داخلها تحت مسميات جاذبة للأسماع، مثل: التنوير والتجديد والإصلاح. وذلك لإيقانهم بأن الخلاص من المسيحية – ومن الإيمان بالمُطلقات عمومًا – أمر حتمي في العالم الجديد.

ولكن أخيرًا! من بين أكوام الرماد المتفحم لصراعٍ وحشي ضد قيم الإله، وبعدما أضحى صوت الإيمان في أوروبا أقرب إلى همس خافت، بدأ أشرس مُناهضي المسيحية يستفيقون من سباتهم العميق. ريتشارد دوكينز، الذي ساهم في تحويل الإلحاد إلى دين جديد، يصرح بحقيقة بسيطة جلبت عليه هجومًا شرسًا: أنه لا يوجد سوى جنسين اثنين فقط، رجل وإمرأة! ثم يتمادى بإقرار آخر بعدها بسنوات، فيؤكد أنه، رغم عدم إيمانه بالمسيحية، إلا أنه يفتخر بأنه مسيحي الثقافة! ويحرص بشدة على بقاء أبرز مظاهر الهوية المسيحية في الغرب: الاحتفالات بعيد الميلاد المجيد، الكاتدرائيات العظيمة، والطقوس الكنسية الفخمة. هذا بعدما قضى حياته كلها يصارع المسيحية – بالذات – كأنها عدوه اللدود!

لقد أدرك البعض متأخرًا جدًا القيمة الهائلة للثقافة الدينية في حفظ المجتمعات من السقوط، وحماية الأمم من الانقراض. لكنهم لم يفطنوا حتى الآن إلى حقيقة أخرى لا تقل خطورة، وهي أن السياق الثقافي لا يمكن أن يُستدام بدون إيمان راسخ في القلوب. لا تأثير لأي ثقافة بلا إيمان! حقًا، لا يُمكن إنكار أن الطقوس المُرتبة تساهم في حفظ الإيمان في أذهان الشعوب، لكن كل مظاهر الهوية ليس لها أي قيمة دون إيمان حقيقي يغذيها. الإيمان نفسه الذي يفتخر دوكينز وغيره بالمساهمة في تقليل نسبته بين جموع أمته! مظاهر الاحتفالات بالكريسماس ليس لها قيمة دون المسيح ذاته. لا يوجد مسيحية ثقافية دون إيمان، الإيمان هو الأساس، هو الروح التي تمنح الحياة للطقوس والتقاليد، هو حجر الزاوية في بناء الثقافة والهوية، الإيمان هو السر! إذن، الحماقة لم تجد لها دواء بعد! فهذا ليس مجرد منطق عبثي، بل هو العبث ذاته مجسدًا!

لعل من فطن إلى ذلك – نسبيًا – واحد من أبرز فرسان فلسفة نيتشه المُخلصين! بل أكثر الملحدين الفرنسيين شهرة، خاصة في عدائه اللاذع للمسيحية، هو الفيلسوف الأبيقوري ميشال أونفري. صرح قائلًا بأنه ملحد مسيحي! وأن السبب الرئيسي لقيام الحضارات الكبرى هو الإيمان بالدين، وأن بقاء الأمة يعتمد على روحانياتها قبل كل شئ. وأن المسيحية هي العامل الأهم لقيام الحضارة الغربية، وبفضلها أصبحت عظيمة! وبمجرد أن أنفصلت أوروبا عنها، صارت أمة هشة وحضارة منهكة، لأنها فقدت سبب وجودها الأهم! بعدما هدمت الأرضية التي تقف عليها الحضارة، خاصة بعدما تسببت النزعة الفردية والمادية في تفككك إجتماعي وأسري هائل. وأن المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي قام بتطوير العقيدة المسيحية، كان سببًا في انتكاسة الحضارة الغربية. لم ينسَ كذلك أن يؤكد بأن الهوية وحدها هي التي تسمح بمقاومة هذه الموجة الكاسحة، وأن النصر سيكون حليفًا لمن هم على استعداد للتضحية في سبيل قيمهم!

هذا هو ما سبق أن أدركه فولتير أيضًا، حينما أدرك أن الأخلاق لا قيمة لها دون الإيمان بالأبدية الخالدة. وعزف على تلك النغمة كثيرًا في قاموسه الفلسفي، وطرح سؤالًا مُفعمًا بالدلالة: «ألا تريد أن يؤمن مَدينك ومحاميك وقاضيك بالله؟». وصرح بأنه لا يُمكن أن يثق في أمير مُلحد، فقد يسحقه بمدفع لأجل مصلحته، أما لو كان هو الأمير فلا يُمكن أن يثق بحاشية من المُلحدين، لأنه سيضطر إلى تناول ترياق كل يوم، فمصلحتهم قد تكمن في قتله بالسم! مؤكدًا أن مجتمعًا مكونًا ممن لا يؤمنون بالله يبدو استمراره مستحيلًا، لأن الناس الذين ليست لهم مرجعية لا يُمكنهم العيش معًا أبدًا. وأنه حتى القوانين لا تُجدي في مواجهة الجرائم السرية. بل أنه يرد على من يرفضون حق الله في أن يُعاقب الإنسان، هذا الذي يُنكره البعض على المسيحية في زماننا، فيقول أن وجود الله المُهيمن الذي يُعاقِب، سواء في هذا العالم أو في العالم الآخر، هو أمر ضروري يجب أن يكون محفورًا بعمق في عقول الناس! كما أكد على ضرورة الإيمان، وأن وجود دين في مدينة مُتحضِّرة، حتى لو كان دينًا سيئًا، أفضل كثيرًا من عدم وجود دين على الإطلاق! وهكذا، لم يختلف حتى فولتير على أهمية الإيمان لبناء مجتمعٍ مُتحضّرٍ!

هكذا تفرض الحقيقة نفسها، فكما أن الزهرة بلا عطر لا قيمة لها، مهما كانت جميلة، هكذا الأخلاقيات المُجردة من الإيمان لا تنفع شيئًا، مهما كانت مثالية! ستظل عاجزة عن حمل ثقل المسؤولية الإنسانية، أو كما يردد دستويفسكي: «إذا كان الإله غير موجود، فكلّ شيء مباح». لذا كانت محاولة عبثية من كانط أن يضع نظام أخلاقي بحت غير مُقيد بالإيمان، من خلال استقائه لأخلاقيات المسيحية دون ميتافيزيقيّتها، كأنه يُمكن لبستان أن يزدهر دون نور الشمس – أي نور الإيمان! فالأخلاق ليست آلية كي تعمل بلا روح.

ولهذا سخر منه نيتشه، فهو يعرف جيدًا أنه إذا لم يُوجد إيمان مسيحي حقيقي، فلن يُوجد كذلك أي أساس موضوعي للأخلاق المسيحية المرتبطة بهذا الإيمان! مناديًا بحق الإنسان الجديد في أن يخلق قيمه الجديدة بنفسه، بمعزل عن المسيحية، وبمنطق القوة، لا الضرورة الأخلاقية. هكذا بين الرؤية الكانطية والنيتشويه، انزلق الغرب في وحل ثقافة ذات نزعة فاشية بالغة التحرر، والتي خلقت أجواء شديدة العدائية كالجحيم لكل من يريد أن يلتزم بقيمه الروحية والإيمانية والاجتماعية، حتى جاء الزمن الذي يتحدث فيه لادينيون عن فقدان القيم الأخلاقية وضعف الروابط الاجتماعية وزيادة النزعة الفردية وارتفاع معدلات الاكتئاب في الأمم التي تخلت عن جلال الإيمان!

لقد خلق دوكينز وأقرانه فراغًا عظيمًا لا يعرفون كيف يملأونه بعدميتهم المُقبضة. صدموا حينما وجدوه يمتلأ بثقافات أخرى يخشونها. فيحاولون إعادة المسيحية – ولو حتى كقيم ثقافية – بعدما ساهموا في ضياع الإيمان بها من القلوب، بيأس يسعون لبناء الجدران الحامية التى سبق أن هدموها بأيديهم! لماذا؟ لأنه لا يمُكن لمواطن عدمي أن يتجاوز خسائره، ولا أن يتحمل أبسط نوازل الحياة من فقد ومرض وألم. وعلى صعيد التقدم، سيظل دائمًا محصورًا في أفق محدود مرهون بسنوات عمره.

العدمي كذلك ماديًا إلى أبشع حد، لا يهتم إلا بالمنفعة اللحظية الحاضرة، ولا يهتم بتعميق جذور الماضي ولا بأثره في المستقبل. النزعة الفردانية الأنانية لديه ستقضي على أي شعور بأي جماعة ينتمي إليها. فكيف إذن يكون مستقبل أمة من العدميون! لهذا قال أفلاطون مبكرًا أنه لا يُمكن لشعب أن يكون قويًا دون الإيمان بالله. حتى بعد موت أبيقور، وهو أبعد ما يكون عن الفكر الديني الذي نعرفه، أعتبره أتباعه إلها جاء للأرض بوحي جديد، وكان تكريمهم لذكراه ديني مثلما درج أقدم الأقدمين! حتى روبسبير بكل إرهابه للمجتمع المسيحي كان يؤكد على إدراك الشعب الفرنسي لوجود الكائن الأسمى، وحقيقة خلود النفس الإنسانية. وكان يرى في ذلك أساسًا لتوحيد الأمة تحت حزمة من القيم الأخلاقية التي بدونها لا يُمكن خلق أمة قوية مُوحدة!

لذا لم يعد غريبا أن يُعلن ألمع مفكّرو الغرب صراحة عن ارتباط الحضارة الغربية وتقدمها بالمسيحية، حتى وإنْ أتى ذلك الاعتراف متأخرًا جدًا! لا أفهم كيف غاب عن عيون هؤلاء المثقفين الأذكياء أن لا حضارة في الكون ليس لها أصول دينية! فكلّ الحضارات العريقة، بلا استثناء، لها جذور عقائدية أصيلة، بما فيها روما القديمة! ولا ينكر أحد ذلك، ولكن عندما يتعلق الأمر بالحضارة الغربية الحديثة بالذات، نجد البعض، في سعي غريب، يرجع تقدمها إلى مصطلحات شائهة مثل «العلمانية» أو «الإنسانية»! فيقولون إن هذا تطور إنساني تدريجي طبيعي. نعم، ولكنه كذلك ليس مُجرد سلسلة من الصدف الحمقاء؛ هذا التطور الإنساني له أصلٌ يا سادة! له جذور راسخة!

لا يوجد تقدم حقيقي ينبثق من فراغ، بل يُشّيد دائمًا على أصول قوية. والتقدم الذي يتخلى عن جذوره ما يلبس أن ينحط! لذا كان الاسم الذي أختاره ميشال أونفري لكتابه المُعبر عن ذلك هو: «الإنحطاط». أخيرًا، اكتشفوا أن تفريغ القيم الإنسانية من أبعادها الإيمانية والعقائدية جعلها بلا معنى، بل خلق فجوة رهيبة أنتجت أجيالًا هشة، مستعدة للانسحاق الكامل لثقافات منحطة على كل شكل ولون تهدد ركائز الحضارة الغربية بالكامل!

لا يغفل إلا جاحد التأثير العظيم لليونان والرومان على مسار الغربيين. حتى أن جاليليو جاليلي كان يُحاكم أساسًا بسبب الأثر الأرسطي المتخفي في ثوب الرؤية الكاثوليكية السائدة، بعدما اعتبر اللاهوتيون الأرسطوطاليون أن اكتشافات جاليليو تتعارض مع فكر أرسطو حول حركة الأجرام السماوية. كذلك كانت مساعي روما عبر التاريخ المسيحي – وحتى الآن – لفرضِ سيطرتها الدينية على العالم بأسرهِ هو نتيجة وراثتها للنزعة التوسعية الاستعمارية الواسعة النطاق للإمبراطورية الرومانية، حيث امتدّت أيدي الرومان لتلامس أقاصي الأرض. هذا بالإضافة إلى تأثرها نوعًا ما بنظرة أفلاطون لضرورة حكم أقلية من الصفوة الملوكية، كما أشار في جمهوريته المثالية، وذلك لأن الشعوب غير مؤهلة للقيادة، وبالطبع، كانت روما الجديدة ترى أن رجالها من الإكليروس هم خير تجسيد لتلك الصفوة المتسامية، فاحتكروا حينذاك أبرز مناصب ومراكز الدولة. لعل هذا التأثير الخطير يعبر عنه القول الغربي بأن كل منا منذ ولادته هو إما أفلاطوني وإما أرسطوطالي!

لكن رغم كل ذلك، تظل المسيحية هي المؤثر الأعظم في حضارة الغرب، بل كانت حجر الزاوية الذي بُنيت عليه أسس وسمات الثقافة الغربية. وهذه كانت الحقيقة الأولى التي لم يفطن إليها بُلهاء ما بعد الحداثة، أن قيم التحضر والتسامح والمساواة والمواطنة في مُجمل دساتير وقوانين الغرب لم تأتِ إلا من رحم التراث المسيحي! الأوائل اعترفوا بذلك وأشاروا إليه بصراحة، لكننا لا نقرأ الأصول بقدر ما نقرأ القشور التي يستخلصها لنا المتنورين المُحدثون وفقًا لأهوائهم! الحقيقة ليست كما يروج السذج أن هذه القيم جاءت بسبب تخلي الغرب عن المسيحية، وارتباطه بالعلمانية! بل الحقيقة هي أن هذه القيم جاءت بفصل الدولة والسياسة، وحتى الثقافة المسيحية ذاتها، عن الكيان القابع في روما! الأمر الذي سمح بنمو وازدهار هذه القيم النبيلة دون قيود.

مساكين من لا يعرفون أن فكرة العلمانية ذاتها هي منتج مسيحي خالص! وما تأخر ظهورها في صورتها الحديثة إلا بسبب خبث الإمبراطورية الرومانية. في البداية، اضطهدت المسيحية بعنف، لكنها لم تستطع أن تصمد أمام تفوقها الحضاري الذي كان يفوقها رقيًا بمسافات. لذا قررت، بحيلة ماكرة، أن تسطو على الكنيسة لحسابها منذ مجمع خلقيدونية المشئوم. العاصمة الشرقية للإمبراطورية سعت لجعل الكنيسة جزءًا من الدولة، أما العاصمة الغربية للإمبراطورية ارتأت أن تكون الكنيسة نفسها هي الدولة! وفي ذات الوقت، اجتاح الغزو العربي أرجاء المشرق وشمال أفريقيا، فصارت المسيحية أقلية مُضطهدة في الشرق، وأغلبية مسجونة في الغرب بأغلال الرئاسة في روما، والتي كانت بدورها مثقلة بالإرث الثقافي للإمبراطورية القديمة، فسارت على نهجها في سعيها المحموم لجعل جميع الشعوب خاضعة لها. حتى المجمع المقدس للأساقفة، بهيئته المعروفة في كل كنائس العالم، تحول لديهم إلى بابوية يرأسها إمبراطور واحد! لذا صدح دستويفسكي مرارًا بأنه لا يريد أبدًا أن تكون الكنيسة دولة مثل البابوية الرومانية، بل يريد للدولة أن تكون كنيسة، لا تفهموه بصورة خاطئة، يقصد من الناحية القيمية لا السياسية، أي أن تعيش الدولة بالقيم الروحية النبيلة التي للمسيحية!

وما سبب اضمحلال إمبراطورية الرومان، والتي كانت ترتكز على قيم أخلاقية دينية، إلا لغرقها في مستنقع الملذات الأبيقورية وفلسفات الشك السوفسطائية التي أفضت إلى فوضى لا مثيل لها، والتي حاول سقراط وأفلاطون وأرسطو أن يواجهوها في اليونان بالتأكيد على وجود حقائق ثابتة في الوجود! وذلك بالسعي وراء المطلقات السامية: الإله، والنفس، والأخلاق، والخير، والحق، والجمال، والحياة الفاضلة، والقيم العليا، ولكن جهودهم باءت بالفشل، فلم يروا ثمارها في حياتهم.

حتى شيشرون، خطيب روما الأعظم، فرغم تأثره حينًا ببعض الهياج الفلسفي الفوضوي، إلا أنه فيما كتب كان يؤكد على أن الفضيلة هي غاية الحياة لا اللذة، وأن القوانين الوضعية يجب أن ترتكز على قانون أعلى سرمدي. وكان يؤمن بخلود النفس الإنسانية، باعتبارها شيء إلهي! بل كان أيضًا يؤمن بالواجبات الأخلاقية، ويصيغ وصايا وإرشادات – مثل أي متدين – حول كيفية العيش بطريقة فاضلة! أي أن هذا الفيلسوف الروماني الأشهر، المُخلص لقيم الجمهورية الرومانية، الرافض لبزوغ نزعتها الإمبراطورية، كان ينادي حرفيًا بكل ما كان يمقته نيتشه! لكن يبدو أن روما نفسها لم تستمع له بما يكفي!

هكذا فشلت كل سبل مواجهة الفوضى العدمية، فظلت الحقائق نسبية كما كانت الأخلاق نسبية! فكان بديهيًا أن تنتصر المسيحية بفكرها الروحي الأرقى! بل بإيمانها اليقيني الأعظم! أو مثلما قال د. طه حسين أن أفلاطون وأرسطو كانوا أرقى من الأجيال التي عاشوا فيها، لذا كان على فلسفاتهم أن تنتظر قرونًا طويلة حتى ينضج العقل الإنساني بما يكفي ليُحسن استثمارها، ولم يحدث بالفعل أن أنتجت تلك الفلسفات ثمارًا إلا بشكل نسبي في العصور الوسيطة، حينما تم دمجها في الفلسفة المدرسية، ثم بشكل أشمل في الحضارة الحديثة! ثم جاء نيتشه ليحاول مرة أخرى أن يستعيد هذيان الأبيقوريين وفوضى السوفسطائيون الذين أجتهد الفلاسفة الأخلاقيون الميتافيزيقيون سقراط – أفلاطون – أرسطو في التخلص منها! هكذا كان بديهيا أيضًا أن تنتظر المسيحية – وهي أرقى بما لا يقاس – قرونًا هي الأخرى حتى يكون أثرها كاملا على فكر المجتمعات والدول التي صارت حاضنة لها، ولن نحتاج لبذل الكثير من الجهد لإثبات ذلك!

إلى ماذا لجأ الأوائل منذ عصر الأنوار إلا للمسيح لاستخراجِ تعاليمه السامية التي حبستها تقاليد روما الخانقة في العصور الوسطى؟ بما فيهم أولئك الذين استخلصوا الأخلاقيات من المسيحية دون جانبها الميتافيزيقي. بدءًا من ديكارت، الذي برغم شكوكه وتشكيكاته، استلهم القيم المسيحية في طرح فلسفته مثلما تأثر بالفلسفة اليونانية. وصولًا إلى كانط، الذى بنى واجباته الأخلاقية شبه الرواقية على أسس مسيحية. لا يمكن إنكار أن معظم التيارات النهضوية في الحضارة الغربية – على اختلافها – كان المسيح هو منبعها الأول. حتى الماديين كان للمسيحية أثر خطير في رؤيتهم للعالم، فالفيلسوف الفرنسي رينان، مع كل تجديفه الوقح على الإيمان المسيحي في كتابه الشهير عن سيرة المسيح، لم يتردد في وصف المسيح بأنه مثال للجمال الإنساني، ونموذج مُعجز لا يمكن أن يتكرر ولا حتى في المستقبل، بل أكد أنه سيظل حجر الزاوية في البناء البشري، بحيث يستحيل محو اسمه من العالم دون أن ينهار الكون ويتزعزع!

يتجاهل الكثيرون عمدًا دور القيم المسيحية في التطور السياسي الغربي، بل وترافق هذا التقدم مع النضال لأجل حرية العقيدة وحقوق الكنيسة! بداية من الميثاق الأعظم للحريات «الماجنا كارتا» الذي أقرته إنجلترا في القرن الثالث عشر، والذي حوى أقدم تشريعات دستورية لضمان الحقوق في أوروبا، وفيه كانت اللبنة الأولى لمبادئ حقوق الإنسان، بل كان نقطة تحول خطيرة في تاريخ الديمقراطية الغربية التي وصلت بنا اليوم إلى سيادة القانون الدستوري، ولعب أساقفة كانتربري دور رئيسي في صياغته قبل النبلاء، وكانت إحدى بنوده الهامة حماية استقلال الكنيسة من تدخلات السلطة المدنية في شؤونها، أي في حقوقها وحرياتها، هذا برغم رفض بابا روما في ذلك الوقت للميثاق دفاعًا عن الملك!

أيضًا حينما اعتلى الملك هنري الثامن عرش إنجلترا، حاملاً إليها رياح التغيير القاسية، وأعلن ذاته رئيسًا لكنيستها، مُجبرًا شعبه على الانسلاخ من كنيسة روما، برز اسم توماس مور الشهير، والذي رفع لواء المقاومة ضدّ تلك الفاشية التي جثمّت على صدر الكنيسة، فدافع بمنشوراته عن حرية الضمير، رافضًا الامتثال لأي قوانين قهرية تتعارض مع معتقداته الدينية. وعلى الضفة الأخرى من الأطلسي، إذا نظرنا إلى الأمة الأمريكية في بدايات تأسيسها، سنجد بوضوح أن الأسفار المقدسة كانت مصدر إلهام لكثير من الآباء المؤسسين في رسم ملامح دولتهم المُرتقبة. تأثروا بها بعمق في رؤاهم حول الحكومة والحرية والعدالة. حتى توماس جيفرسون، الذي كان أقلّهم دينًا وتدينًا، بالطبع أكد مرارًا على ضرورة فصل الدين عن السياسة، لكنه لم ينسى أن يُنادى أيضًا بعدم تدخل السياسة في شؤون الدين. مُشيّدًا جدارًا فاصلًا شهيرًا بين الكنيسة والدولة، كان في صالح حماية حقوق الكنيسة مثلما كان لصالح استقلال الدولة.

لذا ليس بغريب أن ينتقد نيتشه بشدة الفلسفة الحديثة بأكملها، وكذلك جميع الأنظمة السياسية الناشئة عنها، لأنها جميعًا بحسب منظوره كانت تروج للأخلاق المسيحية في أثواب متعددة، الأخلاق التي رفضها لأنه رأى أنها تخنق الغرائز الطبيعية للإنسان، وتُعزز قيم المساواة والشفقة والتسامح والتواضع التي يراها تُعيق تحقيق الذات. ومن هنا جاء هجومه أيضًا على عمالقة الفلسفة الكلاسيكية، أفلاطون وأرسطو، فلم يكن ليهاجمهم إلا لأنهم واجهوا بعض الرؤى المادية المتوحشة التي سادت اليونان على مدى القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، ودعوا إلى منظومة قيم مُتسامية لا تختلف كثيرًا عن القيم الدينية، كما أنهم أقروا بما وراء الحياة المادية الحاضرة، فآمنوا بأنه لا يُمكن أن ينضبط الإنسان دون وجود مُثل عليا متأصلة بالفعل في الكون! لذا عرفوا الفرق بين الخير والشر، الروح والجسد، عالمنا والعالم الآخر، تلك المُطلقات التي كان يعتبرها نيتشه مجرد بناءات بشرية مصطنعة!

وفي رحلة مُضادة لنيتشه، أمضى تولستوي الحقبة الأخيرة من حياته الأدبية يروج للأخلاقيات المسيحية التي رأى فيها غاية السمو الإنساني. بل اعترف في خريف عمره أنه لم يعرف يومًا كيف يميز بين الخير والشر عن طريق العقل، بل اهتدى إلى ذلك عن طريق إيمانه بتعاليم المسيح! ورغم رفضه للجانب الإيماني في المسيحية – على عكس دوستوفسكي الذي كان مؤمنًا حقيقيًا، إلا أنه أخذ كل أفكاره المثالية حول اللاعنف والمقاومة السلبية والعدالة الاجتماعية من المسيحية. وهي الدعوة الشهيرة التي أخذها عنه غاندي بعد تأثره العميق بها، كما تأثر الزعيم الهندي أيضًا بموعظة المسيح على الجبل التي خلبت لبه. حتى مانديلا في نضاله ضد الفصل العنصري، ومارتن لوثر كينج في نضاله من أجل الحقوق المدنية، كانت القيم المسيحية هي المُلهمة والمُحركة لهم كما عبروا عن ذلك مرارًا وتكرارًا.

الحق أنه لا ينكر التأثير العظيم للإيمان المسيحي في إنشاء الحضارة الإنسانية المُعاصرة إلا مُجحف. والدعوة للإقرار بهذا التأثير الأصيل ليس بغرض تمجيد الماضي، بل هي تصويب للنظرة لا يهدف إلا إلى إنقاذ مستقبل الأرض من الفخاخ الفاشية للأفعى التي تزعم أن من يصرون على الالتزام بوصايا المسيح هم حفنة من الأصوليين لابد من قهرهم في حرياتهم، بل ومحوهم من الوجود! فالمسيح هو أول من فصل بين ما له وما لقيصر، بين ما للحق الإلهي وما للحق المدني، وما العلمانية في أصلها إلا هذا الفصل المبتكر الذي لم يحدث قط في التاريخ الإنساني، حتى في حضارة الرومان، التي كانت تنظر للإمبراطور كإله واجب العبادة وسط الآلهة، ومن يرفض كونه إلهًا كان كالخائن للدولة!

ترك المسيح إدارة شؤون الدول لقياصرتها، وأعلن بوضوح باهر لا يُمكن تأويله بأن مملكته ليست على هذه الأرض، فاصلًا كل ما يخص الإيمان عن سلطات الحكم المدنية، وأكد أبرز رسله، بطرس وبولس، على هذا الفصل القاطع في رسائلهم الرعوية المُوحى بها. فالعلمانية لم تكن يومًا حلاً لمشكلة المسيحية كما يردد المتربصون بها، بل كانت حلًا مسيحيًا أصيلًا لمعضلة خطيرة هي تحول كنيسة الغرب إلى دولة! فدخلت إلى العالم ودخل بحر العالم إليها، ولم تعد ملحًا للأرض ولا نورًا للعالم، فارتدى رؤساءها عباءة السلطة بدلًا من عباءة الروح، وتقلد كرادلتها في العصور الوسطى رتبة المحارب العسكري إلى جانب رتبتهم الكنسية في آن واحد، في خلط فادح بين الكهنوتية والعسكرية رفضه آباء الكنيسة بالإجماع في القرون الأولى!

ليس إجحافًا القول بأن الكنيسة في أوروبا وقتها كانت سبب عثرة حقيقية لكل العقول النابهة من قبل حتى بزوغ عصر الأنوار، مما اضطر بعضهم إلى اللجوء لوسائل عديدة في محاولة للالتفاف على تسلطها، فكان انحرافها عن منهج المسيح سببًا في ظهور متمردين مثل لوثر وأقرانه، فأثارت بغيها نقمتهم على الكنيسة كلها، بتقليدها وأسرارها وكهنوتها. كذلك بطغيانها خلقت لنا فولتيرا حاقدًا على المسيحية التي لم تتمثل أمامه إلا في الكاثوليكية، فعكست نصوصه جهلا عجيبًا بأبسط بديهيات الإيمان! حتى أن المرء ليسأل: ماذا تعلم فولتير بالضبط في مدارس اليسوعيين؟! هكذا مع الأسف، قليلون هم الذين استطاعوا، في نظرتهم لكنيسة روما، أن يفصلوا بين تقاليدها الإمبراطورية وبين المسيحية في أصلها!

علاوة على ذلك، فإن المسيح هو أول من أرسى قيم التراحم والتعايش بين المختلفين دينيًا وقوميًا، خاصة من خلال قصته الرمزية عن السامري الصالح، الذي كان بنو قومه من السامريين أعداءً تاريخيين لليهود على مستوى الوطن والمعتقد. ومع ذلك، امتدح المسيح رحمة السامري التي كانت أرقى من فعل ابن دينه ووطنه. من ذلك الوقت، أصبح القريب لنا هو من يصنع الرحمة، لا بالضرورة من يشتركُ معنا في الدينِ أو العرق. لذا، كان بديهيا ألا ينفر المسيح أبدًا من لقاء المرأة السامرية عند بئر يعقوب، فيعطي للإنسانية درسًا عظيمًا لا يُمكن أن تنساه: أن التعاطف الإنساني، برغم وجود الاختلاف، هو الذي يميز الأسوياء عن غيرهم.

لكن هذا لم يمنع المسيح من التأكيد على فساد مُعتقد السامريين، مؤكدًا أنهم يسجدون لمن لا يعلمون، وأن المُخلص سيأتي من اليهود لا منهم. وذلك لأنه لا يرى تناقضًا بين تقديم المحبة للمُخالفين للإيمان وبين الدفاع عن الإيمان القويم! لأن التحضر الحقيقي، كما قلنا سابقًا، هو في التعايش رغم الاختلاف، لا قهر حق الاختلاف لفرض تعايش زائف! فإنسانيتنا لا تعني أبدًا التفريط في معتقداتنا لأجل الآخرين! إنسانيتنا لا تتناقض مع تمسكنا بإيماننا! الفاشيون فقط هم من يضعون التوافق الفكري والعقائدي شرطًا للتعاطف الإنساني! الإرهابيون فقط هم الذين يصرون على الربط بين الاثنين، كأنهم يشترطون على كل مؤمن بأن يختار بين إيمانه وإنسانيته، رغم أنه لا وجود لتناقض بينهما إلا لمن لديهم خلل في أذهانهم!

أيضًا كان المسيح هو أول من يفصل العقاب المدني عن العقاب الديني، حيث ميّز بين الخطيئة والجريمة بوضوح، ففرّق بين ما يستحق العقوبة الكنسية من حرمان وفرز، وبين ما يستوجب العقوبة المدنية كالسجن أو الموت. ففي جريمة مثل القتل، أعلن حكمه بأن من يقتل بالسيف يُقتَل بالسيف، مُقرًّا بذلك للدولة حق القصاص بالقصاص. أما في حالة خطيئة الزنا، نجده يرفع عن الخاطئة عقوبة الرجم، دون أن يُخالِف شريعة الناموس، فقد أتى لا لينقض الناموس بل ليكمله، لكنه رفع الناموس من الحرف القاتل إلى غاية الناموس الحقيقية، أي الاهتمام بالبنيان الداخلي للنفس لتقديس أعماقها. بذلك، فتح باب الرحمة الإلهية أمام كل نفس خاطئة.

ورغم أن الناموس يحكم بالفعل بهلاك الخطاة، لأن أجرة الخطيئة هي موت، لكنه أكمل الناموس بأن دفع حياته ثمنًا لأجل تبريرهم، فأوقف بسلطانه رجال الدين من تنفيذ عقوبة مدنية على الخاطئة، وقال لطالبي رجمها: «من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها أولًا بحجر». ومع ذلك، أصر على أن يصف فعلتها بالخطيئة، لأن الكنيسة يجب أن تسمي الأشياء بأسمائها وفقا لمنظورها السمائي، بل الأكثر من ذلك أنه دعاها إلى التوبة قائلًا: «أذهبي، ولا تخطئي أيضًا». هكذا في حديثه الرقيق معها، وازن بدقة بين حق الكنيسة في النظر لفعلتها باعتبارها خطيئة تحتاج إلى توبة، وبين إبطاله لحق المجتمع القديم بالفتك بها!

لا داعي للتخبط في متاهات التاريخ العميقة؛ لنقرأ موعظة المسيح الشهيرة على الجبل لنعرف من أين أتت الأسس الإنسانية التي قامت عليها الحضارة الغربية الحديثة بكل أبعادها! ولكن، انتظر لحظة، لا أقصد كل القيم بالطبع؛ فالحضارة الغربية المعاصرة تحمل وجهين متناقضين بشكل لافت: وجه قاتم يحمل قيم تمجيد الحرب والفتح والتسلط والسيطرة والاستعمار والعنصرية ضد باقي الأجناس، مع غرام حاد بنظرية البقاء للأقوى، وهذه كلها مأخوذة من التراث الحديدي لروما القديمة. لذا، فلا عجبَ أن ينظر إليها نيتشه بفخر وانبهار حاد، ويعيد تأصيل تفوقها في أشهر أعماله، حتى أنه اتهم المسيحيين بسعيهم لتدميرها تحت شعار الرحمة!

ورغم اضمحلال الإمبراطورية، كان نيتشه يراها أكثر خلودًا من البرونز، واعتبر السابقين واللاحقين عليها مجرد خرافات. كما تعمد أن يتجاهل أي سمات دينية التحفت بها روما، بل قال بصراحة إن كل روح محترم في الإمبراطورية الرومانية كان أبيقوريا! هتلر أيضًا تغزل في روما باعتبارها النموذج المُلهم، وعلى نهجها الصارم سار موسوليني، وعلى ذكريات فتوحاتها وغزواتها كاد نابليون أن يحتل العالم، وهي كذلك كانت الأساس لكل الأطروحات الخسيسة لميكيافيللي.

لا أقول إن كل ما جاء من روما سيئ! فقط الجاهل هو من يعتقد ذلك. لا بد أن ننظر إلى التاريخ بعينين واسعتين؛ فمن ذا الذي يستطيع ينكر عظمة روما؟ لروما فضائلها وفنونها وآدابها ومعمارها وعلومها وقوانينها وإنجازاتها وعظمائها وعظائمها التي لا يُمكن لأحد أن ينازعها فيها. لكن المؤكد أن نيتشه، بنظرته المُظلمة، لم يستلهم منها إلا ما هو ردئ، خاصة ذلك الاستعلاء العنصري الدفين الذي لا يزال مستشريًا في أوساط الغربيين المؤمنين بالمركزية الغربية، والتي هي وريثة شرعية للمركزية الرومانية. وما الحروب العالمية الأولى والثانية إلا نتيجة مُباشرة لإحياء تلك القيم المتوحشة، القيم التي جعلت نخبتها يحتلون مقاعد مسارحها للاستمتاع بمشاهدة الأسود التي تفترس أجساد العبيد! قيم السادة النبلاء كما ينظر إليها نيتشه!

القيم التي جعلت داروين يشير إلى أن بناء الملاجئ لمرضى العقل أو البدن يساعد على تكاثر الأعضاء الضعفاء في المجتمعات المتحضرة، ما جعل تلاميذه الأفذاذ يتسببون عمدًا في عُقم لمئات الآلاف من البشر – المحسوبين ضعفاء – في تطبيقهم لبرامج حقيرة غرضها تحسين النسل، هي نفسها القيم التي دفعت هتلر إلى إقامة دهاليز لإعدام المُعاقين لعدم قدرتهم على العمل، تلك القيم التي بطشت بكل ضعيف وعاجز ومريض، وضاعفت عدد المشردين في ضواحي المدن الكبرى، وجعلت الأبناء الجاحدين يلقون بمن ربوهم صغارًا في منازل الموت المسماة رسميًا ببيوت المسنين! تلك القيم الكريهة التي كانت دستورًا غير مكتوب لكل الإمبراطوريات الشمولية الغازية، كما كانت سمة رئيسية لكل جبابرة التاريخ.

أما الوجه المُشرق للحضارة الغربية، فهو مسيحي بامتياز! لا ينازعها في ذلك فكر أو مذهب آخر. الحديث هنا عن كل قيم الحرية والإخاء والمساواة والتسامح والسلام، والتحلي بالمحبة والرحمة والشفقة والمغفرة. اقرأوا تطويبات المسيح الحانية لتعرفوا ماذا أقصد! هذا غير الدعوة الصريحة إلى نبذ العنف ودفع الشر بالخير وقبول الجميع على علاتهم، ومسالمة جميع البشر على قدر الطاقة، ومحبة حتى الأعداء، بل ومُباركة اللاعنين، والصلاة من أجل المُسيئين والمُضطهدين. تلك المُثل العليا التي أرساها المسيح كانت حجر الزاوية في تطوير مفهوم حقوق الإنسان، وكرست حقوق الفرد وحرياته، وساهمت في نشر ثقافة التعايش السلمي بين مختلف الفئات، وشاركت في تشكيل القيم العلمانية المعروفة. وكل هذا أدى في النهاية إلى خلق مجتمعات أكثر عدلاً وإنسانية في الحضارة الغربية.

ولكن، لا يظنن أحد بأن المسيحية مثالية لدرجة يستحيل معها التطبيق. الأمر وما فيه أن المسيحية في تحضرها بالغ الرقي تُفرق بين التسامح في الحق الخاص، وهو ما تدعو إليه دائمًا في مبادئها، وبين التسامح في الحق العام، وهذا أمر لا يُمكن التفريط فيه لأنه لا يخص الفرد وحده بل يخص المجتمع والدولة. لذا حينما هم بطرس الرسول بالدفاع عن المسيح بالسيف، منعه المسيح بصرامة، قائلًا: «من يضرب بالسيف يُؤخذ بالسيف»!

فالمسيحية ليست فلسفة أناركية ساذجة لتنزع السيف من الدولة، بل على العكس، هي تؤكد على دورها الحيوي في حفظ الأمن والنظام. حتى أن بطرس الرسول يشدد في رسالته الأولى على ضرورة الخضوع للسلطات المدنية وعدم التمرد عليها. وبالمثل، يؤكد بولس الرسول في رسالته إلى روما بأن الملك لا يحمل السيف عبثًا! مطالبًا بضرورة الخضوع للحكومات لأنها مُرتبة من الله، مؤكدًا على حق الدولة في استخدام السيف للدفاع عن آمن الناس من الأشرار. ورغم ذلك، لم يمنع هذا بولس من المطالبة بحقوقه من الدولة عبر الطرق القانونية والسلمية المتاحة. من هنا، نرى أن المسيحية لا ترفض أبدًا القوة المُنظمة بالقانون العادل؛ هي فقط ترفض أن ينحدر البشر إلى سلوك همجية الغاب حيث يبطش القوي بالضعيف. كل هذا يزعج نيتشه بالطبع، فالغابة هي مدينته الفاضلة، بل هي خلاصة مذهبه. كما أنه يكره الحكومات بشدة لأنها في رأيه، مثل الدين، تحمي الضعفاء!

هذه الأخلاق المسيحية، التي صارت تُسمى في الغرب الآن أخلاق إنسانية، هي أخلاق العبيد كما رأها نيتشه، المنحاز بكل قوة إلى عنفوان روما وبطشها. لا عجب أن نيتشه أمتدح أيضًا مظاهر القوة الإمبراطورية السلطوية في كنيسة روما، لا سيما في عهد آل بورجيا، حينما كانت روما الجديدة مُتخلية عن رقة مسيحيتها، وتدوس على أبسط مبادئ المسيحية في سبيل النظام والسيطرة والقوة، حتى لو كان ذلك عبر دهاليز الفساد المالي، وتجارة الرتب الكنسية، ووحل الرذائل الأخلاقية، وخسة الاغتيال بالسم! لذا هاجم نيتشه المتمردين البروتستانت بصورة أشد بكثير من البابوية الرومانية، وذلك بديهي، لأنهم حاربوا بعضًا من مظاهر الفساد التي رأى فيها سمات القوة والعظمة!

والحق أنه رغم الأخطاء العقائدية الكارثية للمحتجين، والتي أطاحت بفكر الكنيسة بالكامل، بالإضافة إلى أغلاطهم الأدبية، التي كان من أبرزها نجاح كالفن، مؤسس المذهب المشيخي، وخلفه فاريل، في إقامة حكم ثيوقراطي عنيف في جنيف، إلا أنهم بظهورهم أعادوا في أوروبا بعضًا من الأخلاقيات المسيحية البديهية التي كانت قد غابت في ظل هيمنة روما، ما دفع روما نفسها لمحاولة العودة إلى جذورها المسيحية من خلال حركة الإصلاح المضاد، كي تلاحق انتشارهم الكثيف في شمال أوروبا.

وإحقاقًا للحق أيضًا، كما كان لثورة المحتجين دورًا في تطور الحياة السياسية والممارسات الأقتصادية وصولًا إلى الأسواق الرأسمالية بمفهومها الحديث. لا يُمكن إنكار أيضًا أن مدارس وجامعات روما كان لها السبق الأساسي في تطور العلوم والفلسفة والأدب والفنون بأنواعها. فأكبر الجامعات الأكاديمية الشهيرة التي نعرفها لم تنشأ إلا في أحضان الكنيسة، كامبريدج وأكسفورد وبولونيا ومونبلييه والسوربون، وغيرها الكثير. بل إن مُعظم المؤسسات والنظم الحديثة التي يعيش الغرب في ظلها الآن ما هي إلا امتداد لمثيلاتها في العصر الوسيط. فليس كما أظهر لنا المُحدثون بأن تلك القرون كانت كلها مُظلمة هكذا على إطلاقها!

لكن السمو الأخلاقي للمسيحية في أبهى صوره، والذي ساهم في بناء العقل المتحضر للمُجتمع الغربي، لم يبدأ حقًا في الظهور إلا بعد اختراع الطباعة ونشر الكتاب المقدس في منتصف القرن الخامس عشر! فقبل ذلك، كانت قراءة الكتاب المُقدس حكرًا على الإكليروس بصورة ما، لذا كانت روما قادرة على مخالفة تعليم المسيح بكل أريحية دون أن يراجعها أحد، فشوهت صورة المسيحية الأصيلة في أذهان العالم بمنتجاتها المؤسفة، من حروب بابواتها، ومحاكم تفتيشها، وصكوك غفراناتها، وكل الآفات التي أُلصقت بالمسيحية زورًا بسببها! والتي لم يكن لمثلها أدنى وجود في البدايات المثالية للمسيحية عند تأسيسها!

ومع قراءة الكتاب المقدس، اكتشف الأوروبيون مدى الرقي الحضاري المخفي، الذي ظل حبيس أروقة الصفوة عبر القرون، بل أدركوا حقيقة أنّ الممارسات المُخزية لروما لا تمتّ للمسيح بصلة! لكن الأوان قد فات، فقد اندلعت الحروب الدموية في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، حتى كره الناس الديانة والمتدينون وكل من يتحدث بقيم الدين! كما أحاطت الحية الخبيثة بالعقل الأوروبي، ونشأت مدرسة النقد العالي الألمانية التي جدفت على الأسفار المقدسة، وحصلت كل فلسفة مادية هادمة للإيمان المسيحي على دعم ملوك وأمراء ونبلاء ضجروا من تسلط روما على عروشهم لدهر من الزمن، فصار هدفهم تقويض الأساس الديني والفكري الذي تأخذ منه البابوية شرعيتها، أي الإيمان المسيحي ذاته!

وهكذا، بالتدرج الصبور، نجحت ثورتهم العارمة في القضاء على كل ما أنتجه العصر الوسيط من فكر وعلوم وفنون ارتبطت بالإيمان، وكأن ذاكرة التاريخ قد طمست كل إنجازاته المضيئة، ووُصم ذاك الزمان ولاهوته وفلسفته بالجهل التام، كأنه لم يحدث أبدًا أن تورط مرة في الصواب! هكذا، وببساطة مذهلة! قطعوا كل أواصرهم مع أصولهم بِبَتْرٍ قاسٍ دون تردد، في نفي عشوائي شامل غشيم لمُثل وقيم تكونت عبر ألف عام! وبدأت المنهجية المادية – السطحية – في رؤية الدين تسود تدريجيًا على عقول كثير من النخبة.

أما روح اليونان الغارقة حتى النخاع في الدين، فقد تجاهلوها! فلم يعودوا يأخذون من اليونان سوى فكر فلاسفتها الماديين، بعدما سئموا مُثل أفلاطون وعقلانية أرسطو. أما الكارهون للمادية المُطلقة، فاستبدلوا المسيحية بفكرة الدين الطبيعي، أي الأخلاق المستمدة من الطبيعة، خاصة بعد رحلات المغامرين من التجار إلى أقاصي الأرض، حيث استقدموا معهم روحانيات وثقافات أخرى بخلاف البضائع. وهكذا، انبثقت حركة روحانية جديدة، وانتشرت الربوبية كمذهب بين بعض المثقفين عبر أرجاء أوروبا الغربية. هذا غير الردة إلى الوثنية القديمة تحت اسم النزعة الإنسانية. علاوة على ذلك، زادت الفلسفات التحررية المعادية للدين، خاصة حينما بدأ التيار المادي يتخذ من العلم رداءً براقًا له منذ منتصف القرن التاسع عشر، مما أعاد تشكيل خلايا العقل الغربي!

كان الهدف هو التقويض التام، لا علاج الأمراض وتصحيح الأوضاع. لعلهم لم يدركوا أن روما، كعادتها، سترتدي في كل عصر الثوب الملائم له، بينما تخفي وراءه بريق القوة والسيطرة. فرئاستها للعالم هي عقيدتها الأسمى، وفي سبيلها يجوز التضحية حتى بالإيمان ذاته! فأنشأت مجمعًا فاتيكانيًا في منتصف القرن العشرين يتصالح مع العالم الجديد، ويتبني أحدث المفاهيم المُخالفة، نزوعًا نحو دين طبيعي عالمي عام. كان هذا المجمع خطيرًا، وصفه البابا بولس السادس نفسه بعد سنوات قليله من انعقاده بأنّه بعده دخل دخان الشيطان إلى الكنيسة! و من ثم، بعد ثلاثة عقود، جاء البابا بنديكت السادس عشر لينتقد كارثة فصل الإيمان عن الخلاص في هذا المجمع! هذه الصحوة المتأخرة بعد خراب مالطة ليست بالأمر الغريب. الغريب حقًّا هو ظهور موتورين في الشرق يوجهون دعوة لكنائسهم – القابضة بصرامة على إيمانها- لإنشاء مجمع على غرار المجمع الفاتيكاني، كما يدعوها موتورين آخرون إلى إشعال ثورةٍ جديدةٍ مماثلةٍ لثورة لوثر، لتتكرر في الشرق أزمة الإيمان القائمة في الغرب!

ولكن ما هي اللحظة التي تخلى فيها الغرب عن إيمانه؟ الواقع أن هذا الانفصال حدث بصورةٍ تدريجية. فهذه الأجواء الجدالية على مدار قرون خلقت حروبًا عنيفة بين الفرق والمذاهب، كما أوجدت منافسة حادة بين الأمراء على مفاتيح القوة، الناعمة منها قبل المادية. فأثارت منافسة الأمراء منافسة أخرى لا تقل خطورة بين رجال الفن والصناعة والاختراع. وكلما اشتدت المنافسة والتجربة والاستخدام للقوى الطبيعية، كلما زاد فهمها وانكباب العلماء على البحث في قوانينها، فتعاظمت سلطة الانسان على الأرض أكثر فأكثر، وازدادت قوة الآلة وإمكاناتها يومًا بعد يوم، فعمقت تلك السلطة. هكذا كانت بداية عصر النهضة. وكانت نتيجة هذه الاكتشافات العلمية أنّ الإنسان آمن بعقله ورفع من شأنه أكثر مما ينبغي. فبدأ يعظم العقل عوضًا عن تعظيم الله خالق العقل. وهكذا وجد الإنسان في الغرب نفسه فجأة ينسى الرب الإله الذي سبق أن منحَه تلك السلطة!

هذه قصة اضمحلال الإيمان في الغرب، ويا لها من نكبة كبرى! حتى المنصفون من أولئك الذين لا يؤمنون بالإله يقرون بقدرة الإيمان المُعجزية على توحيد الأمم، وعلى بناء صروحٍ من الحضارة والرقي. إن الغرب، في ميدان الإيمان، قد أضحى مسكينا، خاويًا من أي رجاء على الرغم من رفاهيته المادية الزائفة. ومع ذلك، لا يزال محبوبًا لدى عالمنا لأنه قدم الكثير للأرض بأكملها، ولأنه – برغم الصراع – جزء لا يتجزأ من الأسرة الإنسانية. لذا، ترتفع همسات الحضارات الغابرة والحاضرة لإنقاذه، تناديه للعودة إلى جذوره الروحية، إلى قيمه النبيلة، قبل أن يفقد هويته إلى الأبد. فهل يصغي إليها؟ لا هدف لتلك الهمسات سوى أن تحذره من ظلال الفاشية الزاحفة، التي تتسلل إليه بنعومة خبيثة بين ثنايا الزمن، لتطفئ شعلة الحب والحياة فيه، حتى يحين اليوم الذي تكشف فيه عن وجهها القبيح لتنقض عليه بلا رحمة!

إن لتلك الحية أتباعًا يتسمون بغباء أهوج لا نظير له، لكنهم مع ذلك في غاية النشاط، لا يضيعون لحيظة من وقتهم، بل بفأس جهلهم يحرثون جدار كوكبنا حرثًا! وفي زحام كافة المُحركات، تبرز قاطرتهم الأسطورية المُرعبة التي تجوب الأرض كلها كأنها تلتهمها التهامًا، مُحملة بقوانين غريبة يبتدعونها مع كل بزوغ فجر، ليسارعوا بتطبيقها مع كل وميض غروب! تُشرعها تلك الفئة المُدللة لتعزز من شأن صفوفها، ولتوسع دائرة أولئك الذين على شاكلتهم، تُمهد لهم كافة الطرق للسير بلا عقبات، وتضم مناطق جديدة إلى خريطة سيطرتهم! لوائح عجيبة الصياغة تحصنهم في قلاع تحميهم من كل همسة لوم او زفرة اعتراض أو صيحة استغاثة، وتشجع على تفشي وجودهم ليصيروا كنجوم لامعة في الفضاء تفرض وجودها، فتزداد أعدادهم مع كل دقة عقرب!

ولكن هل حقًا ستنفعهم الكثرة؟ هيهاتَ! من الجائز أن تنفع كثرتهم بعض الأحزاب السياسية في المعارك الانتخابية بكل أشكالها، تمامًا كما تجلب تلك الأحزاب للبلاد مهاجرين كثر لتحقيق نفس الأهداف الانتخابية. ولكن، يُجمع حكماء من قارئي أطوار المستقبل، بأنه في نهاية المطاف، ستنخرط سلالة هؤلاء في معركة مصيرية فاصلة مع نسل داعش! يترقبها العالم بقلوب متوجسة وأنفاس محتبسة، ولكن النصر حتمًا لن يكون لذرية بلا هوية أو جذور، مهما بدت أكثر تقدمًا وتحضرًا، لأنه ما أسهل فصم من ليس لهم أصل! وما أضعف من ليس لهم عقيدة! وهكذا تُطوى إلى الأبد صفحات الحضارة العلمانية الحديثة في الغرب، لتُسدل الستار بحماقتها الأخيرة على تاريخها الذي جال وصال لقرنين من الزمان!

ولكن لا تيأس يا صديقي، فالقصة لم تنتهِ بعد. ما زال هناك بصيص من ضوء لامع ينبع من بين الظلمات الدامسة. يبدو أن فرصة النجاة لا تزال مواتية! فالمقاومة الباسلة قد انطلقت بالفعل! لم تعد همسًا خافتًا كما كانت في السابق، بل صارت صرخة تعم الآفاق! قطاعات واسعة من الشعوب بدأت ترفع أصواتها لتعلن عن ضجرها ممن يحاولون فرض رؤاهم المُبتدعة لنظام الحياة على كافة الأفراد والأسر والمجتمعات. جماهير تتدفق في الشوارع تعلن سخطها على الأصفاد الجديدة التي تكبل حقهم في التعبير عن هويتهم الطبيعية بفخر، مثلما يفعلها أصحاب الهويات المُصطنعة بفخر أيضًا! تكتلات عديدة تتشكل لتتحدى ظلم المُتجبرين في عقر دارهم. عقول مستنيرة تستفيق لتصدح برفض المهزلة الجارية على سطح عالم كان يفتخر يومًا بأنه حر، حتى انقلبت قوانينه إلى أدوات قمع تنشر تلك الثقافة الجديدة بالإكراه عن طريق الإرهاب الفكري والإلغاء الثقافي. فبدأوا يعلنون عن نفورهم من الطغيان الجديد بصراحة لم نعهدها من قبل.

أخيرًا، صار التصدي لهذه العصبة اللعينة بصورة علنية! صحيح أن كل من يفتح فمه يواجه بقمع وحشي لإسكات صوته، إلا أن الجبهة قد أصبحت مفتوحة، والحرب للحفاظ على روح الأسرة وكينونتها لم تخمد بعد، وصداها يتردد في كل زاوية من زوايا العالم. نعم، ما زالت هناك إمكانية لدحر الزحف العالمي الرامي لتدمير إنسانيتنا، ولكن! علينا ألا نغفل أن دهاة الفاشية قد استعدوا مُبكرًا لهذه اللحظة منذ عقود، وقد سبقونا بالفعل حينما اخترقوا أروقة معظم المُنظمات والهيئات في الغرب المسكين، وبخاصة المؤسسات الدينية!

كانت استراتيجيتهم مزدوجة؛ فإعادة تشكيل وعي المجتمعات من خلال استهداف أذهان الشعوب أمر بديهي، لكنه قد لا يكون ناجعًا مع الشعوب المتدينة بنفس القدر، فالمجتمعات التي تمتاز بعمق إيمانها لا تُفرط في قيمها بسهولة، وكان على المخططين أن يبتكروا طرقًا أكثر حنكة للتأثير. لذا كان استهداف القادة الدينيين أمر لا مفر منه، لأنهم يمتلكون مفاتيح التأثير على عقول العامة. وقد اتبعوا هذا النهج مع جميع الأديان بالفعل، وبدأنا نجد نماذج من كل معتقد ومذهب تجيز النمط الجديد في الزواج، بل وتتبناه وتُروّج له بلا كلل!

لا نجد مثل هذا في الشرق الأوسط لأنهم لم يسبروا أغواره بعد، ما زالوا يخطون خطواتهم الأولى بحذر، يدرسون تضاريس المجتمعات، ويُجسّون نبض الشارع، تبدو المهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة. لكن في الغرب، حيث يسود نفوذهم، وتتغلل أفكارهم كالشعلة في الهشيم، أصبح هذا الأمر شائعًا للغاية! ففي استهدافهم لجذب المُجتمعات المُسلمة التي تقطن في بلادهم، بدأت لأول مرة تظهر نماذج لأئمة من تلك الفئة! في أمريكا وأستراليا وفرنسا، وغيرها من بلدان أوروبا، يؤسس هؤلاء الآئمة دور عبادة مُخصصة لمن هم مثلهم، ويناضلون لقبول هذا النمط بين أبناء مجتمعاتهم، وبأنفسهم يقومون بتزويج كثيرين على ذات النمط.

كذلك نجد رجال التنظيم الراديكالي الإسلاموي – الذين يتغلغلون في أبرز عواصم أوروبا – يتلاعبون بأساليبهم المراوغة في مجالات الثقافة والفلسفة والسياسة. يتنقلون بين المشاهد المختلفة والمتناقضة بثقة مدهشة، ويلهون بمفردات الصوابية السياسية كما يلعب الأطفال النابغون بالدمى. كأنهم فنانون يخطون لوحاتهم السرية على قماش الحضارة الغربية. يُهادِنون وأحيانًا يغازلون اللوبي الضخم للثقافة المدللة في غرب القارة العجوز وشمالها الأقصى! ويفعلون ذلك ببرود يُنافس الأجواء القطبية في تلك البلدان! ولا غرابة في ذلك كما قد يظن البعض، فمهما اشتدَّتْ حِدَّةُ المعارك الفكرية التي تبدو على السطح بين الأذرع الفاشية، إلا أنها جميعًا تنبض بالحياة من خلال مصدر واحد، عنكبوت يحركها ببراعة بما يناسب خطته لابتلاع ذهنية الكوكب بأسره.

أما الأسوء والأمرّ، فهو ما حدث في استهداف الفاشية الجديدة للمجتمعات المسيحية التي تُجاهد لاستمرار بقائها في الغرب. وهو أمر بديهي؛ لأنه برغم تخلي أوروبا، كنظم سياسية، عن أي أثر روحي مسيحي منذ زمن طويل، إلا أنه من الناحية الثقافية، على الأقل، لا تزال المسيحية هي الكتلة الصلبة في أوروبا، هي المنظومة الأخلاقية والقيمية التي تشكلت على مر القرون، بل هي الجسر الثابت بين ماضيها وحاضرها، وهذا هو الحال أيضًا في أمريكا وكندا وأستراليا، لذا، بدأ العمل على اختراق أعماق مؤسساتها الروحية العتيدة منذ عقود هذا عددها، لذا لم يكن غريبًا أن تكون لهذه المؤسسات دور الشراكة في نشر الثقافة المدللة، لا مُجرد الانصياع لها، بل أن بعض هذه المؤسسات، بدلًا من أن تكون قلاع حصينة للأخلاقيات المسيحية، قد سبقت حتى الدول والمجتمعات في التحرّر منها!

وكما تتناثر الظلمة لتبتلع النور، ومثلما تتبدل الفصول ببطء موحش، لم تنقلب مواقف هذه المؤسسات من قضايا الأسرة والزواج من النقيض إلى النقيض بشكل مفاجئ، بل تسرب التغيير الفكري إلى جدرانها بخطى تدريجية محسوبة، فالتدرج قانون لا مفر منه لإحداث أي تحول فكري أو اجتماعي، خاصة التحولات الخبيثة التي تستلزم التسلل بخفية، تشبه بوادر هذا التدرج ما نراه ونسمعه الآن في دهاليز قلاع الشرق، حيث بدأت رحلة التضليل! في البداية، قالوا إن هذا السلوك ليس خطيئة فحسب، لكنه كذلك مرض يحتاج لعلاج، وهذا قد يكون حق بالفعل، لكنهم ما قالوه إلا بهدف تمهيد الأرض لغرس بذور الباطل! تلا ذلك بقليل إعلان أنه مُجرد مرض يحتاج إلى علاج، وليس خطيئة يجب التوبة عنها! وأن تصنيفه بالخطيئة يتعارض مع الرحمة المسيحية! ومن ثم، جاء بعدها التصريح الشهير الذي يزعم أن من يسلكون هذا الطريق ليسوا بحاجة إلى علاج، وأن تشبيههم بالمرضى هو من قبيل العنصرية البغيضة!

وبمضي الوقت، طالبوا بأن تحتويهم الكنيسة داخل جدرانها دون أن تمنحهم الأسرار الكنسية، بفهم أحمق للعبارة القائلة إن الكنيسة هي مستشفى للخطاة وليست متحفًا للقديسين! غافلين عن حقيقة أن المسيح لم يلتق بالخطاة، كالعشار والسامرية، إلا ليقودهم إلى التوبة، وهذا ما تحقَّق بالفعل! ولم يقف في وجه الجموع المتعطشة لرجم المرأة الزانية، إلا لحمايتها من عقاب مُجتمعها، لكنه كان يسعى في الأساس لتوبتها، فقال لها: «أذهبي ولا تخطئي أيضًا»! فالكنيسة الحقة لا تُسدّ أبواب الرجاء في وجه الخطاة الراجعين بقلوب نادمة، لكن هذه المؤسسات قبلتهم بخطاياهم دون أن تبكتهم عليها، رغم وعيها الكامل بأنهم لا ينوون التخلي عن تلك الذنوب قيد أنملة، بل يزدانون بآثامهم على صدورهم كأوسمة شرف يفاخرون بها أمام العالم!

وفي إصرارهم الدؤوب على التمادي في غيّهم، حاولوا – دون جدوى – التدليس على معاني النصوص المُقدسة نفسها! لإيهام الذين فقدوا عقولهم بأن المسيحية لا تنظر إلى هذا الفعل كخطيئة، بل هي تقف فقط ضد من يستبيحون إجراءه بالإكراه! لكن سرعان ما انهارت محاولتهم البائسة أمام الآيات الكتابية المُحكمة والصارمة التي لا تتيح فرصة لأي تأويل، ولا تتسع لأي استدلال باطل! ولما أيقنوا فشل مسعاهم الساذج، زعموا أن هذه النظرة الضيقة – الرافضة لهذا النمط من العلاقات – نابعة من ارتباطها بذلك الزمن السحيق، أما الآن فالزمن أختلف، ولكل زمن مبادئه ورؤاه الخاصة! متناسين أن الحقائق الأبدية لا تتبدل مع تقلب الأيام! وأنّ القوانين الإلهية لا تتبدّل بتبدّل الأهواء. لكنهم بهذا المنطق المُعوج، فتحوا أبواب الكنيسة لمن أعماهم الخداع، وبدأوا بمنحهم الأسرار الكنسية! ثم أعطوهم البركات الروحية!

وأخيرًا، أزاحوا الستار عن وجوههم بلا خجل، بإقرارهم رسميًا لهذا الزواج في معابدهم التي كانت لله، أما الآن فأصبحت تخضع بالكامل لرئيس هذا الدهر. وفي هذا الميدان الكريه، تنافست كيانات رئيسية على تطبيق تلك الأجندة المُلونة بكل ما يُخالف الإيمان المسيحي، فتساقطت مناراتها الواحدة تلو الأخرى، من الأنغليكانية في أرض الضباب إلى اللوثرية في بلاد الثلوج، وعبر شتى بقاع أوروبا، وصولًا إلى المشيخية في أعماق القارة الأمريكية، ثم في ألمانيا وغيرها. وفي ذروة هذا السباق المُخجل، جاءت وريثة الإمبراطورية الحديدية في روما، فأصدرت وثيقة رسمية بُمباركة هؤلاء الأزواج، متذرعة بأنها لا تقدس الزيجة ذاتها، بل فقط تُبارك الثنائي الزوجي المُتحاب! لعل هذه البلوى المُحرقة تعطي لقلاع الشرق التي لا تزال صامدة درسًا عظيمًا، وهو أن الحق لا يُمكن أبدًا أن ينبع من التدرجات المُخادعة، فالضلالة وحدها هي التي تترعرع بخبث في الظلام، أما الإيمان فهو ثورة صادقة لا تعرف المهادنة، بل تعلن عن ذاتها في الضوء الصريح!

لقد تصلفت بالكامل أدمغة قادة تلك المؤسسات الغربية، والتي تصر بعناد على أنها ما زالت كنائس تنتسب للمسيحية. بل يظنون بغطرسة أن الوحدة المسيحية تكمن في انضمام كنائس العالم إليهم، بصرف النظر عن سلامة الإيمان! وهذا يعني أنه لم يعد هناك أي أمل في وحدة إيمانية معهم، في حين أن الوحدة المُمكنة لا تكمن إلا في عودة الفهماء منهم إلى القلة الباقية الآمينة في عالمنا. ولكن مع ذلك، لا زالت هذه الكيانات تسعى جاهدة أن تستقطب معها باقي كنائس العالم التي لا تزال ثابتة على كلمتها مع الكلمة الأزلية! ولا سيما في الشرق، لتدخل معها في وحدة عالمية مُصطنعة هي تجديف وقح على جسد المسيح! لم يكفيها أن لها فروع عديدة في الشرق، لازالت تابعة لها روحيًا وإداريًا، وذلك لأنها لم تتخذ منها موقفًا مسيحيًا شريفًا! بل هي تريد أيضًا الاستحواذ بفكرها الخبيث حتى على الكنائس الآمينة الحافظة لوديعة الإيمان القويم بصورته النقية.

وفي هذا السياق بالغ الحرج، سعى بعض الفاسدين عديمي الوفاء، المنتسبين بالاسم للكنائس المستقيمة، لغسل سمعة هذه الكيانات المتهاوية، وتبييض سجلها الحافل بالكوارث الإيمانية والأخلاقية، لتمكينها من التقرب بخبث إلى وجدان شعوب الشرق التي لا تدرك شيئًا عن تلك النكبة في الغرب، ولا تعلم أن أي شراكة، ولو سطحية، مع تلك المؤسسات، لن تؤدي إلا إلى السقوط معهم في بئرهم المريع! وقد حاولت روما بالذات، قدر استطاعتها، أن تؤخر لحظة إعلان مُباركتها لهؤلاء الأزواج حتى تأخذ كنائس الشرق تحت مظلتها التعيسة أولًا! وبالأخص، كنيسة الإسكندرية!

ولما العجب، يا صديقي؟! فمنذ القِدَم، كانت مصر هي الجائزة الكبرى، وعبر القرون، كانت وريثة النسر الروماني تسعى جاهدة لابتلاع كنيسة مصر بكافة الاحتيالات والإغراءات. وقبل سنوات، من إعلانها لقرارها المخزي، حاولت مرارًا إدخالها معها في وحدة وهمية، تارة تحت اسم توحيد الأعياد بين الشرق والغرب! وتارة أخرى باسم توحيد المعمودية بين كنيستين لا يجمعهما إيمان واحد! تارة ثالثة اعترفت بقداسة الشهداء الأبطال من القبط في ليبيا، لتتحدث عن ما تسميه بـ «مسكونية الدم» التي تُوحد بين الكنيستين! وفي المقابل تحاول باستماتة أن تفرض على الإسكندرية الاعتراف بقديسيها! كل هذه المكائد البائسة تحطمت بمجرد اصطدامها بحصن الكنيسة الراسخ. لم يكن أي منها لينطلي على كنيسة لها إرث أسطوري في التصدي لكافة الألاعيب، سواء أكانت من العروش الغربية القديمة التي جمعت بين الدين والسياسة في مؤسساتها، أو من هذا اللوبي الجديد الذي صارت هذه الكيانات الدينية ضمن نطاق نفوذه. لذا كان البابا شنودة الثالث يقطع أي حوار مع كل كنيسة تنضم لهذا الركب المريع بإباحة هذا اللون المرفوض من الزواج داخلها. حتى في زيارته لتلك القارة البعيدة الهادئة صغيرة الحجم، واجه تهديدات بالعنف من مُتطرفين راغبين في فرض تصوراتهم الضالة على الكنائس.

يعرفُ الحكماء قدر كنيسة مصر، يدركون جيدًا مقاديرها وميراثها بالغ العمق والتأثير، يرونها منارة هداية للحيارى في عالم ينزلق سريعًا إلى غياهب العتمة، يقدرون حجم جهادها كي تكون نورًا للعالم كحسب وصية سيدها، يشاهدون مقاومتها العنيدة لكل من يحاول إفساد رسالتها، حتى تظل ملحًا صالحًا للأرض، بينما يصطف السفهاء، من داخلها أو خارجها، في صفوف مناوئيها، ظلمات نفوسهم المأزومة تعوق رؤيتهم للنور الساطع، حتى تكدست أذهانهم برؤى مشوهة وضلالات أكسبتهم الحمق، فالأحمق وحده هو الذي لا ينظر جيدًا إلى خريطة العالم ليفهم الحقيقة القاسية، من تبقى يُمكنه أن يصمد أمام هذه العاصفة الهوجاء؟ من الذي يتحدث باسم المسيحية في العالم؟!

إن الكنيسة القبطية – ومثيلاتها من الكنائس الحافظة للأمانة المستقيمة – هي طوق خلاص حقيقي للمجتمعات المسيحية المُحافظة في أرجاء المعمورة، تلك التي ابتليت بخذلان قادتها لها في ظروف بالغة الحرج! لهذا نرى كثيرون طالما تخبطت سفنهم المترددة في أحجية الظلام العميق، يكتشفوا، أخيرًا، الملاذ الحقيقي بعد رحلة صراع طويلة مع أمواج البحار اللامتناهية، فينتبهوا إلى فرصة النجاة التي تنتظرهم في السفينة الثابتة التي تُبحر بثقة حتى وسط مُحيطات الشكوك الحديثة، فيلجأون ببصيرة روحية إلى مرساها الآمن، المُستقر عبر عشرين قرنًا منذ أن مشى المسيح على أرضها، الميناء الذي لا يزال صامدًا أمام رياح التغيير! في ذات الوقت، الذي يُسلم فيه البعض من أبنائها رايتها بخفة، وبتهكم لاذع يجلبون عليها شماتة المُغتاظين من خصومها، ثم يتخلون بأريحية عن جواهر إيمانهم لافتتانهم بأفكار مُخادعة ومذاهب مُصطنعة، ظاهرها النور والفكر وباطنها الخواء والعدم.

هم لا يغفلون عن حقيقة أن كنيسة الإسكندرية هي القلب الصلب للمسيحية في المشرق، وأن اختراقها، بهذه الجرثومة، قد يعني بصورة ما سقوط العالم المسيحي بالكامل في قبضتهم. لكنهم يدركون أيضًا أن الجسد القبطي العام، إكليروس وشعبًا، شديد المُحافظة، عميق الارتباط بهويته، شديد الإخلاص لإيمانه، لذا يحاولون خداعه بكل السبل لاستقطابه لخدمة أجندتهم التي يعتقدون أنه لا يحق لأي جماعة بشرية على مستوى الكون أن ترفضها! بأحقر الأساليب وأكثرها دناءة، يحاولون عبثًا غزو القلعة المصرية العريقة! وهي لا تزال صامدة وسط حروب شرسة من كل شكل ونوع ولون! لكن النير القاسي بالغ الثقل يشتد فوق رأسها، والضغط العصبي عليها لا ينقطع من جميع الجهات، أصوات السُّجس الفكري تعلو بداخلها بسبب عبث السذج والخونة، مساعي الوحدة العالمية المُزيفة لا تتوقف عن الإلحاح اللزج والملاحقة المُرهقة. فماذا تفعل كنيسة مصر؟! في إرسال أثيري عابر للمحيطات حدثني صديق من الغرب، بل من أقاصي الغرب، بخطاب متفائل يدعو لعدم القلق، ثم أردف بثقة قائلًا: «الرسالة المرقسية ستصمد!»

استرجعتُ هذه المحادثة الفريدة عقب سماعي خبرَ قيام الكنيسة القبطية بقطع الحوار القائم مع مؤسسة الفاتيكان بسبب قرارها الأخير. حقًا! إنّ الكنيسة القبطية عصية على المَضغِ! لذا لا عجب ان يوصمها كافة الرعاع والدهماء على كل لون بالتعصب! فقد كانت دومًا علقم مُر في حنجرة كل من يحاول ابتلاعها! وحجر عثرة في مواجهة كل مخططاتهم! وقد أحدث موقفها الشريف هذا دويًا في العالم المسيحي، استنفر كثيرًا من الكتل المُحافظة الضخمة ضد قادة تلك الكيانات بمواقفهم المخزية. ولكن هل هذا الموقف الشجاع يكفي؟ وهل هذا يعني أن تلك الحرب قد انتهت؟ بالطبع لا! بل أنهم كعادتهم حاولوا الالتفاف على موقفها النبيل لإفراغه من مضمونه بمراوغاتهم المُعتادة، بل بدأ الترويج في روما وغيرها لما يُسمى باحتفالية مجمع نيقية، والتي تجمع تحت مظلتها جميع الكنائس التي تعترف بمجمع نيقية، بما فيها الكنائس التي سقطت في تشريع الزواج المُحرم رسميًا! لا تسرع إذًا بحزم حقائبك يا صديقي، لأن الحرب لا تزال في مُستهل بدايتها! بل أن جبهة الشرق لم تُفتح بعد بصورة ظاهرة للعيان، مما جعل البعض يظن واهمًا أن الحرب لم تبدأ بعد!

صوت صراخ الشر يرتفع عاليًا في أرجاء الأرض، لكن مُعظمنا لا يصدق أذنيه، أو لعلنا لا نطيق التصديق بسبب الأثمان المهولة التي يجبن بعضنا على دفعها! وكأن هذا الخطر الذي يتربص لن يعبر حدود الشرق، إلا أنه يقترب منا يومًا بعد يوم! أو لنكون أكثر دقة، إنه قد صار في وسطنا الآن! لم تعد هناك مسالك رمادية آمنة في المنتصف لنسلكها، لقد أدركنا أخيرًا حقيقة أن الطوفان على الأبواب! يزحف نحونا بلا هوادة! يجرف كل شيء في طريقه! يقتلع بلا رحمة كل من يقف في وجهه. ومع ذلك، لا خيارات متاحة أمامنا سوى الانصياع أو المقاومة! الخضوع أو الصمود!

بل إننا نكاد نستشف تلك المفارقة الرمزية العجيبة؛ حيث تقف الإسكندرية – ككنيسة – في مواجهة روحية مُباشرة مع الأمواج الأكثر علوًا لهذا الطوفان. مثلما تقف الإسكندرية – كمدينة – أمام تحدٍ مادي مع أمواج أخرى تتربص بها، مهددة بابتلاعها حينما يعلو مستوى البحر، نتيجة لذوبان الجليد القطبي المتسارع! الكنيسة، كمعقل روحي منيع، عمود الرب عند تخوم مصر، قبلة الأرواح الباحثة عن طريق الحياة الأبدية، مُستهدفة لإدراك خصومها بأنها دائمًا في طليعة المقاومة ضد كل الضلالات عبر التاريخ، والمدينة، كشاهدة متفردة على إرث التاريخ، عاصمة العالم القديم الثقافية المتاخمة لمصر، تصدح بالأبواق لإنقاذها، لكونها الأقدم والأعرق بين كل الحواضر المعرضة لذات الخطر. هكذا تتجلى في الإسكندرية الصورة الكاملة لكافة التحديات الثقافية التي تواجه إنسانيتنا!

ولكن، كيف لنا أن نستعد لما هو قادم؟ عالمنا يحتاج إلى فلك جديد أكثر ضخامة وأشد مناعة من الفلك الأول، لأن ينابيع الغمر المتفجرة في الطوفان الروحي لا تعرف المزاح، ووابل الأمطار الغازرة على إيقاع الرعد المدوّي لن يرحم أحدًا، وأمواجها المتلاحقة هذه المرة ستكون أكثر شدة وشراسة! ولن تفيد كل محاولات النجاة بتسلق المرتفعات مهما بدت لنا راسخة، لأن المياة ستغطي حتى القمم الشامخة التي كنا نظن أن مياة العالم مهما تعاظمت لا يمكن أن تبلغها! عالمنا بالكامل سيهبط أسفل الماء، لذا لا بديل عن فُلك ضخم يسير بهيبته على وجه المياة!

الفلك يحتاج لأعمدة من نور، ولا يظن البعض – خطأ – أننا نعيش في عصر بلا أعمدة! لا يزال صوت أحد كبار أعمدة زماننا، البابا شنودة الثالث، يصدح حينما قال: «ألا يوجد من جانب الحق أحد يقف ويدافع؟ وإن لم تشهد بعض الكنائس بالحق، فالكنيسة القبطية ستشهد بالحق، وتكون رائدة في هذا المجال»، كان يتحدث عن الكارثة المحيطة بنا الآن، هي بعينها! نعم، لذا حينما يسأل أحدهم الآن: «من المتحدث باسم المسيحية في العالم؟» على كنيسة الإسكندرية، كما كانت دائمًا، أن تتقدم الصفوف!

إلا أن هذه الحرب، الوجودية، لا تخوضها كنيسة الإسكندرية وحدها، بل تشاركها الكنائس الشقيقة لها في حمل وديعة الإيمان، والتي لطالما ضحى أبناؤها الأبطال بدمائهم من أجل حمايتها في الأزمنة القاسية. حتى الكنائس المُحافظة المُخالفة لها في الإيمان مُطالبة بأن تقف معهم جنبًا إلى جنب، وكذلك الجماعات المسيحية التائهة التي خذلها رعاتها ومرشدوها. بل جميع شعوب الأرض قاطبة، على اختلاف عقائدهم وثقافاتهم، مُطالبون بهذا النضال. كل الجماعات الإنسانية التي تجاهد للدفاع عن حق عائلاتهم وأوطانهم في أن يعيشوا حياتهم الطبيعية كما اعتادوا وفق تقاليدهم، هي جزء أساسي من هذه الحرب. على جميع هؤلاء أن يشكلوا جبهة متحدة ليكون لهم مكان ومكانة في عالم المستقبل. إنها حرب كل إنسان شريف لا يزال يؤمن بالحرية، وبضرورة بقاء حق الاختلاف في عالمنا الذين يسعون جاهدين لصهره في قالب واحد يتوافق مع مبتغاهم المريض!

الوقت يداهمنا حقًا، والحرب تزداد اشتعالًا، ولكن صدى طبولها لا يصل إلى مسامعنا! لماذا؟ لأنه الملف الملغوم الذي يصمت عنه الجميع! القضية المحظورة التي يخشى حتى الأقوياء الخوض فيها! لا مسؤولون يتحركون، ولا مثقفون يتحدثون، ولا قادة دينيون يتدبرون. إنه صمت مُرعب أكثر منه مُريب، صمت غير مفهوم سيفتح المجال الواسع لجيوش تلك الحركة كي تنخر في جسد المجتمعات الشرقية، كما فعلت من قبل في الغرب. العامة معذورون، فهم لا يعرفون الحروب إلا بدوي المدافع وهدير الصواريخ. لكن الحكماء، ألا يعون أن حروب الوعي هي الأشد وطأة؟ خاصة الحرب شبه المستترة التي تدور رحاها الآن لتشكيل صورة ذهنية جديدة مُغايرة لعالمنا.

ألا يدركون أنه كلما اشتدت هذه الحرب، كلما انتشر الجهل بين صفوف أحد أطرافها، وهذا الطرف هو نحن! والأدهى هم أولئك الذين ينفون وجود الصراع من الأساس! يرون المتحدثين عنه كمهووسين يفتعلون حربًا. لكن الحقيقة أن عالمنا يغرق بالفعل في حرب إبادة ثقافية ضارية، يشنها العدميين المساقين من تلك المنظومة الكونية التي تستهدف نشر ثقافة اللاشىء بين البشر، ليصبح الجميع نسخًا متطابقة، خاوية، مبتذلة، بلا رأي أو موقف أو فكر أو انتماء، عبيدا أذلاء لإله جديد، غير الإله الذي زعم نيتشه، بلا إيمان، أنه قد مات.

إنها حرب عادلة، يُوجد احتمال كبير أن نكسبها على مستوى العالم بأكمله. إن رفض قبول ما يخالف مُعتقداتنا الدينية ومنظوماتنا الأخلاقية هو حق طبيعي لا جدال فيه، بل أن قهرنا في ذلك هو لون من الفاشية الممقوتة! وتغول سافر على مبدأ حرية العقيدة للمجتمعات الدينية! لذا، أولى خطواتنا تكمن في تحصين كل من حولنا ضد تأثيرات هذا التيار العنيف! وعدم التوقف عن الحديث ضد هذه الأجندة الخبيثة في كل محفل وفي كل وقت، وهي مقاومة فكرية سلمية لا لوم على صاحبها، وعلى القانون أن يحميها! فماذا ننتظر؟

الخطوة الثانية هي أن نسعي لعقد اجتماعي عالمي جديد قائم على فض الاشتباك بين القوات المُطالبة بالحرية الشخصية لكل فرد وبين القوات المُطالبة بحرية العقيدة للأفراد والمؤسسات والمجتمعات. لا داعي للقتال! فالحريات لا تتناقض، بل تُكمل بعضها بعضا! ولنحتكم في ذلك إلى المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي تنص صراحة على حرية الدين والمعتقد. وكما حارب الانسان كثيرًا لأجل حريته الشخصية، عليه كذلك أن يحارب لأجل حق كل مجتمع روحي في الحفاظ على هويته الثقافية والأخلاقية التي بدونها لا يمكن أن يحفظ وجوده.

فلتكن الحرب إذًا، فهي إجبارية لا مفر منها، ولا سبيل لتأجيل القدر المحتوم. وأي محاولة يائسة من أي جهة لتفاديها لن تؤدي بها إلى السلام، بل هي بمثابة قفزة خطرة في فم الهاوية المظلمة للمنظومة الأفعوانية للخصم، تصل بها في النهاية إلى الذوبان التام في جوف الأفعى الكونية الجديدة. ليس هذا مصير الأمم والحضارات وحسب، بل هو مآل جميع المؤسسات الدينية والهيئات الثقافية التي ستحاول الهرب، وبخاصة الكنيسة، أكثر من غيرها! لأن سلام الكنيسة لا يكون إلا بسلامة إيمانها. والإيمان العميق وحده هو الدعامة الأساسية لصمود أي كيان في التاريخ، والتفريط فيه من أجل سلام وانسجام عالمي زائف تحت مظلة وحدة غاشة ليس إلا خيانة مريرة ستؤدي إلى فصم الكنيسة. ولعل سر قوة وصلابة وتماسك كنيسة الإسكندرية، على وجه الخصوص، يكمن في تشبثها العنيد بالإيمان، وإصرارها المستميت على وحدة الروح والفكر داخلها.

فماذا تفعل كنيسة الإسكندرية أمام هذا التحدي الأعظم؟ إن أعين الكثيرين تتجهُ صوبها ترقب رد فعلها بلهفةٍ، فالضرورة تُلقي بثقلها على كاهلها أكثر من أي وقت مضى، وتُحتم عليها خيارات بالغة الصعوبة. فهل تصرّ، كما عاهدناها دومًا عبر الأزمنة العصيبة، على أن تطيع وصية الخالق أكثر من أهواء الأرواح الخاوية؟ حتى لو اضطرت إلى السير وحدها في هذا الدرب الضيق! هل تبقى صامدة في وجه العواصف المُحتملة؟ هل تطرح عنها أي خوف أو رهبة جانبًا؟ وتتقدم ببسالة إلى مقامها الأصيل في خط الدفاع الأول؟ هل تقوم كنيسة الإسكندرية بدورها التاريخي القديم في ضبط الاختلال في كفة ميزان العالم؟ هل تحث أبناءها على أن يكونوا أمناء على الحق حتى الرمق الأخير؟ هل تصبر صبر القديسين؟ حتى متى جاء ابن الإنسان، ألعله يجد الإيمان على الأرض؟ في كنيسة الإسكندرية!

لم يسبق لي أن طلبت مشاركة منشوراتي، لكن أعتقد أن هذه الرسالة بالتحديد يجب أن تصل إلى الجميع!

للمتابعة على فيسبوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!