فَاتِحَة الطريق إلى بَصيـرة بلا غُيـوم!
مع الأسف يظل كل إنسان أسير لخبرته الذاتية، لصورته الذهنية عن نفسه وعن العالم من حوله، فيرى الكون بأكمله من منظوره الشخصي، ويصدر أحكامه القاطعة من خلال هذا المنظور المنفرد، كل منا حسب تكوينه الجيني والبيئي والفكري.
فالمتفائل المزهو بنفسه سيرى دائمًا أن رؤيته هي الأعمق، واختياراته هي الأوفق، وأسلوبه هو الأذكى، ويُعظم دائمًا من تجربته، ويسفه بشدة من تجارب الأخرين، ويبالغ في تصديق مديح أحدهم له، وقد يتطرف لدرجة أن يعتقد أنّ المصائب المجتمعية تلحق بالآخرين فقط، أما هو ففي مأمن تام منها لمجرد أنه هو! حتى الأوبئة والأمراض ستستثنيه هو بالذات دونًا عن الجميع.
أما المتشائم الذي لم يحقق ذاته فسيرى أن نصيبه من الحياة هو الأسوأ على الإطلاق، ومعاناته هي الأكثر قسوة، البلايا ستنتقيه من بين من حوله مهما بالغ في حرصه، كرة الشارع المقذوفة لن تصيب إلا رأسه، ولا يُعلق بذهنه إلا ذم البعض لشخصه، يشك في كل شيء، ويشكو من كل شيء، وقد يصل تطرفه مداه لدرجة أن يتحول لمجرد كتلة من الإحباط تسير على قدمين، حتى يظن أن السماء نفسها تضطهده!
كل هذه الأحكام شبه المطلقة يدعيها هذا وذاك بمنتهى الثقة والارتياح، وبيقين عجيب لا نعلم من أين أتوا به، ورغم عدم جدارتهم على فهم شئونهم الخاصة، يدلون كذلك بأحكامهم التي لا تقبل النقاش في الشئون العامة بنفس اليقين الكاذب، دون أن يروا أن هناك شيء ما خطأ في منهجهم! وهذا الخطأ تحديدًا هو ما يُطلق عليه طلاء العام بالخاص، فيقرأون الواقع والقادم من زاوية رغباتهم الخاصة ومخاوفهم العميقة، وهو سلوك ذهني ساذج لا يليق سوى بأحداث الذهن غير الناضجين.
أما محبي الحكمة، الساعين بجد وإخلاص إلى الفِطْنة، فعليهم أن يدركوا أن خطوتهم الأولى لاكتسابها تبدأ بالتخلص من عبء الشعور الزائد بذواتهم، لأن ذواتهم هي الغيوم الكثيفة التي تعمي أعينهم عن رؤية الصورة الكاملة.
٢٥ مايو ٢٠٢٠ م