خواطرلاهوت

كيف تُخترق القلاع الحصينة؟

عندما يرغب أحدهم في هدم عقيدة قوية لها بنيان مُتماسك أو مؤسسة روحية عقائدية تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، فهو ليس بغبي كي يهاجمها من الخارج، فقد حاولت الإمبراطورية الرومانية أن تقضي على المسيحية بمقاومة كرازتها واضطهاد أتباعها، فاضمحلت الإمبراطورية وانتشرت المسيحية في كل أرجائها، وتقوت الكنيسة وتثبتت عقائدها في قلوب وألباب أعضائها، لأن الحرب الخارجية دائمًا ما تجعل المؤسسات أكثر قوة وصلابة واستقامة، وهذا ما لا يفعله سوى السذج من المتآمرين!

أما الحاذق منهم، فهو من يعتنق هذه العقيدة، ويتبني كل أفكارها، وينضم إلى المؤسسة التي ترعاها، ويصطف بخبث بين صفوفها، ويلمع بريقه بين جمهورها، ويتدرج بثبات في رتبها الهيراركية، ويخلق له أذرع قوية داخلها، ويخترقها بنفوذه حتى العظم، وهنا.. وهنا فقط، يبدأ في خلخلة المؤسسة من داخلها بالتدريج من خلال إطلاق ثورة ناعمة تراكمية، يهدم عن طريقها كل الثوابت العقائدية الراسخة، وكل القوانين المستقرة منذ زمن، ويقدم أفكاره المُخالفة تحت مسميات لطيفة على الأذن، مثل: التنوير والتجديد والإصلاح.

ولن يحتاج حينها أن يصرح علنًا بكراهيته العميقة للمؤسسة وعقائدها، يكفيه فقط أن يزرع بذور الشك في مدى صحة الركائز التي تقوم عليها تلك المؤسسة، وسيقوم تلاميذه الذين استقطبهم بالتعبير عن أطروحاته الثورية بصورة أكثر صراحة وشراسة، فيعملون بنشاط على زعزعة الأساسات التي حفظت المؤسسة من السقوط عبر القرون، ويضربون بقوة في أصلب أعمدتها وأبرز رموزها، أما هو فسيظل هادئًا، ينشر هرائه التشكيكي في صور إبداعية تخلب الأفئدة، ويردد تعبيراته التي تحتمل أكثر من معنى، ويعيد تأويل تصريحاته الصادمة التي خرجت من فمه عفوًا أو بشكل مقصود، وهكذًا يظل طيلة الوقت يناور ويراوغ بلا ملل أو خجل!

هكذا ينجح في صناعة مناخ رديء يؤهله لنشر بضاعته الهلامية بكثافة أكبر، ولا تصيبه سهام كالتي أصابت تلاميذه الذين غامروا بسمعتهم، بل يرتفع على جثثهم بعد أن دفعهم للسقوط أمامه كي يتفادى أي مواجهة حقيقية يظهر فيها بصورة المُخالف للإجماع العام، لأنه أجبن بكثير من أن يدفع – كالرجال – ثمن ما يؤمن به، وأضعف فكريًا من أن يواجه جنود المؤسسة في أي سجال عقائدي حقيقي! لذا لن يجيب أبدًا على أسئلة كاشفة لهرطقة منهجه، فلو أجاب بصدق سينكشف أمره في لحظة، ولو لجأ للكذب فسيبدو كالمنافق أمام أتباعه.

ولو أثبت مهارته على الصمود في مواجهة حراس القلعة المخلصين القابضين بصرامة على مفاتيح بواباتها، لوجد له داعمون من الوزن الثقيل سواء من داخل المؤسسة أو خارجها، يقدمون له الدعم المادي السخي، بالإضافة إلى الحماية المعنوية الكافية لتجعله يتوغل في أعماق المؤسسة بمستوياتها المتعددة أكثر فأكثر، وفي نفس الوقت يقوم بتكوين قاعدة شعبية كافية لتثير الشغب ضد خصومه، وتدافع عنه عند اندلاع المعارك الكبرى، وبمرور الزمن تنحل المؤسسة بشكل تدريجي، وسيكون سقوطها عظيما!

تنقسم القلاع الحصينة عندما تُخترق من المُجّدفين والخَوَنة، ولكنها تَسْقط تمامًا حينما يدخل هؤلاء بثقة من الأبواب الأمامية، ومع الأسف تظل هذه الحقيقة القاسية غائبة عن أعين الحراس الغافلين المائعين حتى تقترب لحظة السقوط… ولكننا – رغم كل ذلك – لنا رجاء في أن أبواب الجحيم لن تقوى أبدًا على الكنيسة، ونثق في أن الرب الإله قادر أن يثبتها.

للمتابعة على فيسبوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!